آشعة بالباريوم خلع نظارته ... أغمض عينيه , ثم فركها بأصابعه .... دفس سبابته فى أذنه ... مثل ( شنيور ) فى حائط .. .. ثم أخرجها محملة بما قدرت عليه ... نظر إليها ... فركها بين إصبعيه... ثم مال بالكرسي إلى الوراء إلى أقصي مدى , مما أجبر الصفوف المتابعة خلفه أن تخطو إلى الخلف قليلاً ... تنهد تنهيدة عميقة... ثم قال : : المريض ده لازم يتعمل له فحص تانى قبل ما أكتب له التقرير ده ! .. ... تلاقت نظراتنا خلفه حياري , فقال هشام ( أضخمنا جسداً و أكبرنا عمراً) : فحص إيه يا فندم ... حضرتك ؟ : فحص بالباريوم على المريء ... أنا شاكك إن المرىء ده فيه حاجة مش مظبوطه ! : بس يعنى يا دكتور ( فاروق ) حضرتك يعنى هو فحص المرىء بالباريوم يعنى ممكن يضيف حاجة زيادة عن الآشعة المقطعية دى ؟ ... إستدار بكرسيه إلى الخلف ... تقهقرت خطواتنا أكثر أمامه .. لبس نظارته الطبية ... رمق ( هشام ) بنظرة معجونة بكل أنواع الإحتقار و الإستهزاء و الإستخفاف ... فقط نظر إليه ... ثم إستدار مرة أخرى راجعاً وضعيته الأولى ... مقلباً أفلام الآشعة المقطعية أمامه .. تاركاً الصمت و الخوف يفترسنا جميعاً ... وضع فيلماً آخر لمريض آخر على ( فانوس الآشعه ) أمامه , ثم قال و الضيق يملأ كلماته : : لما الإستشارى يقول لكم حاجة , ماحدش فيكم يتلامض من لسانه ... إعمل الفحص , تعمل الفحص على طول !! تكهرب الجو بعد ( لماضة ) هشام ... غلف السكون غرفة كتابة تقارير الآشعه ... لا صوت غير صوت أفلام الآشعه تروح جيئةً و ذهاباً ما بين فانوس الآشعه , و ما بين أصابع الإستشارى ! مضى الوقت ثقيلاً جداً علينا ... خفيفاً جداً عليه , حيث كان ينظر إلى ساعته بعد كل فيلم يقرأه , و هو يتمتم : : هى الحالات كترت أوى ليه كده النهاردة ؟ ... إنتوا مش عارفين إنى باروح مستشفى الطلبة و المستشفى الجامعى بعد ما باسيبكم هنا ؟ .... لم ينطق أحد ... هشام وحده كان ينطق ... لكن الآن و بعد حبوب الشجاعة التى ابتلعها قبل أن ( يتلامض ) ... أصيب بخرس مفاجىء !! إنتهى الدكتور فاروق سريعاً من كتابة التقارير ... هب واقفاً ناظراً للمرة الألف فى ساعته ... ثم قال و هو يسرع الخطى , و نحن نلاحقه حتى باب القسم : : أول ما ييجي الراجل ده يستلم آشعته , إبقى إعمل له فحص على المرىء بالباريوم .. قالها و هو يرمق هشام بنظرة توعد إذا ما ناقش أو خالف الأمر!! استولى على الكرسي الخشبي ل ( منعم بلية ) و جلس على باب القسم ينتظر مريض الباريوم !! : فيه إيه يا هشام ؟ .. انت قاعد كده ليه ؟ : قاعد كده ليه !!! ... انت ماشفتش الدكتور فاروق قال لى ايه ؟ : أيوة عارفين ... بس انت حتعرف المريض ازاى ؟ : حأسأل أي واحد يدخل القسم : إنت ( محمد حسن ) و لا لأ !! : يابني ماتروح لإبتسام السكرتيرة , و تبلغها و هى تجيب لك المريض لغاية عندك لما ييجي يستلم آشعته !! : إبتسام دى متخلفة .. هى حتركز فى الشغل و لا فى الملوخية اللى جايباها معاها تقطفها , و لا فى ابنها اللى بترضعه !! :: تركنا هشام مع كرسي ( منعم بلية ) , و انتشرنا فى غرف الفحص نؤدى ما هو مطلوب من فحوصات مختلفة .. و كلما انتهينا من فحص ما , و نخرج إلى الطرقة الرئيسية للقسم , نجد هشام ما زال على نفس جلسته ... لم يتحرك .... مثله مثل الكرسي الذى يجلس عليه ! بعد ما يقارب الساعتين ... وجدنا هشام , و يبدو أنه قد وجد ضحيته ... محمد حسن ... مواطن بسيط ... يشبه إلى حد كبير عبد السلام محمد ... ضئيل الحجم ... بسيط الثياب جداً ... ثوبه مكرمش ... مفتوح صدره , حيث سقطت عنه أزراره ... ينتعل ( شبشب حمام ) .. آثار تعب السنين قد تركت من الخطوط ما تركت على تقاسيم وجهه . كان هشام يمسك الرجل من يده و كأنه ( فرج ) فى فيلم الكرنك .. و قد وجد ضالته بعد طول انتظار !! ... أدخله إلى غرفة الفحص بالصبغه
... و نحن نتابع الموقف من بعيد ! : مش برضة يا جدعان الفحص ده بياخد ربع ساعه بالكتير ؟؟ .. ( قالها محمود طلعت و هو يتعجب !!) : و ممكن فى عشر دقايق يا حودة ... لكن احنا مش عارفين هشام بيعمل ايه بالظبط ... ألا يكون فهم الفحص حاجة تانية !!!! .... ( قالها خالد توفيق بخباثة , و هو يشعل سيجارة بعد أن انتهى من قزقزة اللب الذى كان يملأ كفه ) : تلاقيه قاعد يدردش مع العيان و لسه ما بدأش الفحص خالص ... إنتو مش عارفين هشام !! ... ده بيجيب شنطة السفر بكل اللى فيها من لبس و هو جاي المستشفى و كأنه مسافر بلاد بره !!! ... !) ( قالها أحمد عجمى بابتسامة ) !! : يابني اتلم انت و هو ... تلاقيه بس بيدى الفحص حقة عشان ما يتهزأش تاني من الدكتور فاروق.... ( قالها محمد زهران , الأقرب فينا إلى هشام ) ... بعد نحو الساعه ... خرج هشام من غرفة الفحص ... يحمل بين يديه عشرات من أفلام الآشعه .. و كل أمارات الجد على وجهه ... مضى من أمامنا و هو يبرطم و يهز رأية يميناً و يساراً : الراجل زى الفل ... ما عندوش أى حاجة ... أومال المرىء فيه مشكلة .. و المرىء مش مظبوط .. و المرىء فيه ورم ..... بلد شهادات صحيح !!! ... و بعد دقائق أخرى خرج الرجل من غرفة الفحص ... شاحب الوجه ... زائغ النظرات ...عليه علامات الإعياء ... يستند على الحائط و هو يخطو ... ملابسه قد غطاها ( الباريوم ) .. و بعض الآثار حول فمه .. و على رقبته !!! ما كاد الرجل يرانا , حتى انطلق مهرولاً إلينا صائحاً : : يا دكتووووور ... إلحقنى يا دكتور الله يكرمك : خير يا حاج .. فيه ايه ؟ : و الله يا دكتور مانا عارف فيه ايه !!! ... أنا إيدي كانت بتوجعنى ... و جيت الإسعاف هنا فى المستشفى , قالوا لى إطلع فوق قسم الأوشاعة يعملوا لك أوشاعه على ايديك ... جيت لقيت دكتور كده طول بعرض خدنى على ملا وشى ... قعد يشربني فى حاجات بيضا .. و كل ما اجى أتكلم , يشخط فيا و يقول لى : إخرس !!! و قبل أن يغمى علينا من نوبة الضحك الهستيري التى انتابتنا ,سألته و الحروف لم أستطع أن ألضمها كلمات : : إنت إسمك إيه يا حاج ؟ قال : محمد حسين !!!!!! |