بسطاوى
ضاق بنا صندوق السيارة ال ( نيفا ) , حيث جلس الصول ( جمال ) على الكنبة اليمنى , مجاوراً الضابط ( على ), في حين اتخذت مقعدي على الكنبة المقابلة .. مجاوراً العسكري ( أسامه ).. عسكري الحراسة , و بجانبه العسكري ( حسين) صاحب المشكلة مع ( بسطاوي ) .... في حين توسط بسطاوي أرضية السيارة بين الكنبتين . استبد الوجوم بالوجوه .. الصمت قد تمكن من الجميع . ...لا صوت غير صوت محركات ال( نيفا ) و هي تقتحم بنا دروب الصحراء في طريقها إلى مستشفى ( سيدى براني ) العسكري . لم يكن بسطاوى مجرد عسكرى .. و لم يكن مجرد ( مراسلة ) للقائد .. بل كان كل شيء و أى شيء .... فى كل وقت و فى أى وقت ... حلاقاً ماهراً إذا ما غاب حلاق الكتيبة ... سباكاَ لا يشق له بنان إذا صعبت الأمور على السباك ... كهربائي يلعب بالأسلاك لعب ... طباخ درجة أولى يجعل من الفول أبو سوس و لا أحلى ( كنتاكى ) فى زمانه بعد إضافة بعض البهارات و التحابيش... و فوق هذا كله , كان هو ( سامر ) الكتيبة .. يزيح عن كواهل زملائه تعب الوحده العسكرية و تعب الوحدة النفسية .. كان يملك صوتاً جميلاً ... يردد السير الشعبية لأبى زيد الهلالى و عنترة بن شداد , بالضبط كما حفظها عن منشدى السير الشعبية فى الموالد و الأفراح ... لا تمل من كلامه .. و لا تستطع التوقف عن متابعته و هو يتكلم .. لكنته الصعيدية كانت تضيف على جمال حديثه جمالاً و خصوصية أخرى لم يسلكها إلا هو . ... انطلقت بنا السيارة تتهادى بين المرتفعات و المنخفضات .. الليل قد إنتصف , و السواد يغلف كل شيء عدا ما تكشفه أضواء السيارة .. . توسطنا بسطاوى و لأول مرة لم يتكلم كسابق عهده ... أعطى للصمت بطاقة حضور .... الدماء لم تجف بعد على ملابسه العسكرية .. و رأسه قد اختفى وسط أربطة الشاش التى عممتها به بعد دخوله العيادة محمولاً على أكتاف زملائه . كان ضيفاً دائماً على العيادة ... ليس مصاباً كما جاء مساء هذا اليوم ... بل طامعاً فى ( شوية حبوب مجويات ) ... كنت أعطيه إياها دوماً لكن بعد أن أبتز منه موال صعيدي أو جزء من سيرة شعبية بصوته الشجي المميز.. : طول عمرى باكرة الدكاترة : أومال بتيجي عندى ليه يا بسطاوى ؟ : يادكتور انت مش دكتور .. انت حته سكرة .. الدكاترة اللى انا عارفهم كرشهم مدلدل برة مترين و نضاراتهم جعر كوباية !! نظرت إليه متذكراً فرحته اليوم بعدما حصل على تصريح أجازة لخمسه عشرة يوماً منحه إياها العقيد جرجس .. قائد الكتيبة الجديد ... : مبروك يا عم بسطاوى .. مين قدك يا عم .. خمستاشر يوم مرة واحده ! : و الله يا دكتور حيعدو زى الهوا .. أدازات الديش مافيهاش بركة : انت اخر واحد يتكلم على أجازات الجيش يا عم بسطاوى ... ده احنا بالعافية لما بناخد أسبوع واحد ... الله يسهل لك يا عم !! : إحنا ( حنجر ) و لا ايه يا دوكتور ؟ : لا ياعم .. هو انت بينفع معاك قر .. المهم إنك حتنزل تشوف أبوك و أمك : ههههههههههههه أبويا و أمى بأشوفهم بجالى 20 سنة ... عايز أشوف خطيبتي : إنت خاطب يا بسطاوى كمان !! .. يا بختها بيك و الله .. عمرها ما حتزهق : نفسي أشوفها يا دكتور و لو مرة ... نفسي : يا نهارك أسود و منيل .. هو إنت خاطب و ما شفتش خطيبتك ؟ : أباااااا .. أشوفها كيف ؟ .. ده كان ابوها يجطع رجبتها !! : أومال يا جدع إنت حتتجوز عمياني ؟ : لا ما تخافش .. أمى جابت لى صورة من حداها : طيب ما تورينى كده ؟ .. و لا برضه ما يصحش فى سلو بلدكم إنى أشوف صورتها ؟ : لا يا دكتور العفو ..ده انت زى أخويا الكابير ... شوف .. جمر 14.... صوح ؟ : هى من ناحية جمر فهى جمر .. لكن دى صورة بنت صغيرة !!! .. يعنى بالكتير خمس ست سنين .. دى صورة قديمة لها دى و لا إيه ؟ : هههههههههههه جديمة كيف يا دكتور... دى جاديدة لانج .. بجالها شهرين بس : نهارك هباب !! .. إنت حتتجوز بنت عندها خمس سنين؟ : ههههههههههه لا يا دكتور ... أصل دى صورة أختها الزغيرة .. هما جالوا لى إنها تشبهها بالظبط !! تبسمت فى حزن و أسي و أنا أنظر إليه الآن ..ممدداً على أرضية السيارة .. و قد غطت الدماء ملابسه بعد مشاجرة عصر اليوم مع العسكرى ( حسين ) ... كان دائماً يكره ( المششفيات )..... لكن الآن يا بسطاوى الأمر أكبر منك ... و أكبر منى ... و أكبر مما تعلمته فى حياتي العملية القصيرة. توقفت محركات السيارة أخيراً أمام المستشفى ... ترجلنا جميعاً ... إلا بسطاوى ... لم يترجل ... بل تشابكت أيادينا لتحمله إلى ..... ... ... ثلاجة الموتى !! |