جلسة عفاريتي
قطعنا طرقات القرية الضيقة , متجهين إلى بيت ( فطوم ) ... تقدمنا الشيخ ( البحيري ) - بجلبابه الأبيض القصير فوق الكعبين - لمعرفته المسبقة ببيتها الصغير المنحشر فى آخر البلدة الصغيرة , فى حين تبعته أنا و إبن خالتى , و كلى لهفة على خوض التجربة الأولى فى ( تطليع العفاريت ) , حيث دار بيننا حوار هامس .
أنا : انت متأكد إنه بيطلع عفاريت بجد ؟
إبن خالتى : يابنى الناس هنا كلها بتحكى عنه
أنا : بس انت عارف ان الموضوع كله ممكن يكون دجل و شعوذة و كده !
إبن خالتى : عارف, لكن الشيخ البحيري أنا أعرفه من زمان .. راجل محترم و بتاع ربنا بجد.
أنا : أنا بقالى فترة بأقرأ فى كتب العفاريت و المس الشيطانى , لكن بيني و بينك حاسس ان كله دجل فى دجل !!
إبن خالتى : معاك حق إذا كان بياخد فلوس .. ده بيعمل كده خدمة للناس بس .
أنا : يعنى مش حيطلب من الست دم ديك أحول , أو مصارين بطه عورة و كده ؟
إبن خالتى : هههههههههههه .. هو بيطلع العفاريت بالقرآن , و بس .. مش أكتر من كده !
أنا : حاسس إنى مش حأبطل ضحك , و الموضوع كله لعب فى لعب !
إبن خالتى : طول بالك .. كلها دقايق و تشوف بفسك !
..............................................................
إستقبلتنا والدة ( فطوم ) على عتبة البيت الصغير بحياءٍ ريفي جميل , و قد غطت جزء من وجهها بطرف غطاء رأسها ... قادتنا إلى غرفة يغلبها الظلام فى مدخل البيت , و قبل أن تنصرف مستأذنه أن تنادي إبنتها - فطوم - الفتاه الملبوسة من الجن , طلب منها الشيخ البحيري أن تأتيه ب ( حلة ) مملوءة بالماء.
الغرفة ضيقة نوعاً ما , تنتشر براويز بسيطة بعشوائية على جدرانها الغير مطلاه... سقفها عالٍ تتوسطه لمبة صغيرة مخنفسه , أزاحت بعضاً من ظلام يكفى لأن أتبين محتوياتها التى لم يكن بها إلا كنبة عربى و أربعة كراسي خشبية .. ثم منضدة صغيرة تتوسط الغرفة , ثم شباك صغير يطل من وراء أسياخ حديدية .
جاءت جلستي على الكنبة المجاورة للباب مباشرة , و كأن اللاشعور إختارها لى حتى يتسنى لى الخروج سريعاً , إذا ما تعقدت الأمور و طلع إن فيه عفاريت بجد !!
ساد صمت قصير قبل أن أقطعه , موجهاً حديثى للشيخ البحيري
: قول لى يا شيخ بحيرى .. هو الجن بيلبس الإنسان إزاى ؟
قال : عن طريق فتحة الشرج , و غالباً بيكون فى الأماكن الخربة أو المظلمة أو دورة المياه أو ما شابه .
قلت : طيب إفترض يعنى إن العفريت اللى انت حضرته , رفض يخرج ؟
إبتسم إبتسامه كلها ثقة و تمكن ... أغمض عينيه قليلاً , ثم قال و هو يلعب بحبات المسبحة بين أصابعه:
ما يقدرش ما يخرجشي .. أنا عارف ممكن أخرجه إزاى .
أردفت : إفترض يعنى يا شيخ بحيري , مجرد إفتراض يعنى .. لو قالك يعنى : مش خارج ؟
قال و ما زالت إبتسامه الثقة على شفتيه : لو رفض يخرج بهواه ..يا إما أحرقه , يا إما أخللى اللى معايا يساعدونى أخرجه غصب عنه .
قلت, و قد تملكنى الخوف قليلاً : هم مين دول اللى معاك ؟ .. مافيش غير أنا و ابن خالتى !!
قال ضاحكاً : ههههههه .. لأ .. مش قصدى عليكم ... قصدى على ابراهيم و فاطمة .
قلت بصوت مكتوم : ابراهيم و فاطمة مين ؟
قال بهدوء : دول أصدقائى من الجن .. مسلمين , و دايماً مرافقنى فى الحالات دي , و بيساعدونى إذا رفض الجن إنه يخرج من نفسه !
قلت و الخوف كله قد ملك كلماتى : يعنى قصد حضرتك إن إبراهيم و فاطمة معانا دلوقت ؟
قال و الابتسامه لم تفارقه : طبعاً طبعاً .. هو أنا بأمشي من غيرهم !!
بدأ الخوف الحقيقي يتسرب داخلى قليلاً ... حتى قبل لحظاتٍ من الآن , فالموضوع كان أقرب إلى الهزار منه إلى الجد , لكن ثقة الشيخ البحيرى , و نبرات صوته الواثقة الصارمة , و إبراهيم و فاطمة الجالسان معنا دون أن أراهما , قد حول الموضوع برمته إلى خانة الجد اللى مافيهاش هزار أبداً ...
أصوات كثيرة داخلى بدأت تحثنى على مغادرة المكان فوراً ... فالقراءة شيء , و الواقع شيء آخر تماماً !
ماذا إذا لو صدق الشيخ البحيري , و طلع فيه عفاريت بجد ؟؟
يا نهار مش فايت !! ... أنا أشوف عفريت !!!
... و بالفعل اتخذت القرار بالإستئذان لأى حجة كانت , لكن قبل أن أهم بذلك , دخلت علينا والدة فطوم , تحمل ( حلة ) مليئة بالماء , و خلفها فطوم .. فتاه عشرينية العمر . سوداء اللون , ما عدا أسنانها البيضاء اللامعة التى جعلتنا نعرف وجهها من قفاها .. قصيرة نوعاً ما , جسمها منبعج , شعرها منكوش , حتى حسبت أنها هى العفريت بشحمه و لحمه !
وضعت أم فطوم حلة الماء على المنضدة أمام الشيخ البحيري , ثم اتخذت مجلسها على الكرسي المجاور لإبن خالتى ... أما أنا , فما زلت منفرداً فى الكنبة العربي جنب الباب , و قد هيأت نفسي للطيران من الباب المجاور , إذا ما تحقق أياً من كلام الشيخ البحيري !
فس الشيخ البحيري مسبحته فى جيب جلبابه ... إعتدل فى جلسته , إختفى هدوء وجهه لتحل بدل منه تكشيرة خوفتنى أكتر مانا خايف ... , قطب جبينه , و لف طاقيته البيضا الشبك بيديه و أحبكها على رأسه ....تنحنح , ثم كح كحة مصطنعة , ثم وضع يده اليمنى على أذنه , ثم أطلق العنان لصوته , ليشق السكون المخيف برفع آذان بلا موعد , تقشعر معه جسدى من قمة رأسي حتى إخمص قدمى , فى حين هبت أم فطوم واقفة لتحكم غلق الشباك , حتى لا يسمع الجيران ما يدور , و البنت على وش جواز !!
بعد أن انتهى من رفعه للآذان ... رجع السكون المرعب مرة أخرى يغلف جنبات المكان ... قطعه الشيخ البحيري بأن مسك فطوم من إبهام إصبعها .. ثم راح يتلو بعضاً من الآيات القرآنية
( و الصافات صفا .. فالزاجرات زجرا .. فالتاليات ذكرا .. إن الهكم لواحد .. رب السموات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق )
ثم ينفخ فى الماء
( ... إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب .. و حفظاً من كل شيطان مارد .. لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى و يقذفون من كل جانب .. دحوراً و لهم عذاب واصب )
ثم ينفخ فى الماء
( أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ... إنا جعلناها فتنة للظالمين )
ثم ينفخ فى الماء
(... إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم ... طلعها كأنه رؤوس الشياطين ..)
ثم ينفخ فى الماء
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تاخذه سنة و لا نوم , له ما فى السموات و مافى الأرض , من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه , يعلم مابين أيديهم و ما خلفهم ... )
ثم ينفخ فى الماء
راح الشيخ البحيري يتلو آيات من بعض السور القرآنية , و التى تدور حول الجن و الشياطين , ثم ينفخ فى الماء الذى أمامه كلما انتهى من قراءتها .
ثم بعد أن انتهى , نظر بعين ثاقبة إلى فطوم .. التى زاغت نظرات عينيها , و تجمد وجهها بلا ملامح .. وضع يده الأخرى فى حلة الماء , ثم قام برش وجهها به , فراحت تزوم ثم تزمجر ثم أعقبتها بصرخة إنشق لها قلبي نصفين ... حاولت الوقوف لكى أنفد بجلدى من هذا الجو العفاريتي , لكن مخى قد توقف عن العمل و لم يرسل لقدمى أى إشارة بالوقوف !!!
جذب الشيخ البحيري يد فطوم بقوة و ما زال ممسكاً بإبهامها بكل قوة , قائلاً بصوت حازم :
مين معايا ؟؟
أجابت فطوم بصوت متحشرج : أنا الشيخ حسن!!
بنفس الحدة و الجدية قال الشيخ البحيري : و انت مالك و مالها يا شيخ حسن ؟
قالت أو قال : أنا مش بأذيها !
قال الشيخ البحيري : يا شيخ حسن أنت من الجن و من إسمك فأنت مسلم , و لا يحل لك جسد بنى آدم !!
قال أو قالت : أنا بأصلي و باصوم و مش بأذيها
قال الشيخ البحيري : ( فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا )
قال أو قالت : أنا أول مرة ألبس إنسية , لكن مش بأذيها ... هى اللى أذتنى !
الشيخ حسن : آذتك إزاى يا شيخ حسن ؟
قال أو قالت : دلقت عليا مية من الشباك و أنا رايح أصلي الفجر من غير ما تسمي !!
قال الشيخ البحيري بهدوء عجيب : ( يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا )
قال أو قالت : هى اللى غلطانة . . و مش حأخرج منها !!
قال الشيخ البحيري بكل صرامة : ( قال فاخرج منها فإنك رجيم .. و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين )
استمر الحوار و الجدال بين الشيخ البحيري الآدمى المصمم على تطليع العفريت بالذوق و بآيات القرآن الكريم , و الشيخ حسن العفريتي المصمم على القعدة جوه فطوم بالعافية , و أنا أتابع ما يجري غير مصدقاً ما يحدث أمامي ... شعر جسدى قد وقف عن آخره و تفصد العرق من كل مسام جسدى و تسارعت ضربات قلبي لتتعدى الألف فى الثانية ...
وقف الشيخ البحيري , و ما زال ممسكاً بقوة بإبهام فطوم , قائلاً بلهجة حازمة و كأنها الإنذار الأخير :
يعنى مش عايز تخرج منها بهدوء ؟
الشيخ حسن العفريتى : لأ .. مش حأخرج !
الشيخ البحيري : طيب ... بص كده فى الأوضة !! ... أنا معايا اتنين من جنسك .. من الجن المسلمين الطيبين, و بيساعدونى إذا إنت رفضت تخرج بهدوء ... شايفهم ؟
الشيخ حسن العفريتى : أيوة شايفهم ... قاعدين على الكنبة اللى جنب الباب !
... ما إن نطق الشيخ حسن العفريتى بتلك الجملة الأخيرة , إلا و قد تجمد الدم تماماً داخل عروقى ... و توقف قلبي تماماً عن النبض , و رفض الزفير أن يخرج من صدرى بتاناً البته !! ..
يا نهاااااااااااار أسود من وش فطوم !!!! ... ابراهيم و فاطمة قاعدين على الكنبة اللى جنب الباب !!!! ... يعنى اتنين عفاريت قاعدين جنبي دلوقتى !!!!!!!!!!!!! ...... الله يخرب بيتك يابن خالتى و يخرب بيت اليوم اللى شفتك فيه !!!
ضممت فخذىٌّ بكل قوة , و ألصقتهما ببعضهما البعض , لمعرفتى مسبقاً كيف يلبس العفريت بنى آدم !!
و بصوت كالسيف صرخ الشيخ البحيري فى الشيخ حسن العفريتي : قلت إيه ؟ أخليهم يساعدونى و لا تخرج لوحدك ؟
باستكانه قال الشيخ حسن العفريتي : لأ .. خلاص .. حأخرج لوحدى
بهدوء و ابتسامة مفاجئة بعد عبوس طويل قال الشيخ البحيري : تخرج من صباع رجلها الصغير !
بصوت ذليل قال الشيخ حسن العفريتي : حاضر
بلهجة آمرة عابس وجهه مرة أخرى قال الشيخ البحيري : أوعى تطلع من عينيها أو من فرجها ؟
قال الشيخ حسن العفريتى بكل هدوء : حاضر
شد الشيخ البحيري يد فطوم مرة أخرى بقوة , لافحاً إياها ببعض من الماء المتعفرت على وجهها , فانتبهت لتعود إلى ملامحها بعض الحيوية التى افتقدتها طوال دقائق , و بدت كأنها عادت للحياه مرة أخرى .. أقبلت عليها أمها مسرعة تحتضنها , فى حين ابتسامة نصر مظفر على محيا الشيخ البحيري الذى تلقى كلمات الشكر و الثناء و الدعوات من أم فطوم بأن يكتر الله من أمثاله و يحميه و يجعل له فى كل خطوة سلامة و ما يرميه فى ضيقه أبداً قادر يا كريم !
إلتقط ابن خالتى يدي ليساعدنى على الوقوف .. وقفت بكل صعوبة , و بدات أمشي , لكن ضامّاً فخذٌىٌّ بكل قوة , خائفاً من الشيخ حسن العفريتي أن يشعر بالبرد , فيبحث له عن مدفأ آخر ..... غير فطوم !!
قطعنا طرقات القرية الضيقة , متجهين إلى بيت ( فطوم ) ... تقدمنا الشيخ ( البحيري ) - بجلبابه الأبيض القصير فوق الكعبين - لمعرفته المسبقة ببيتها الصغير المنحشر فى آخر البلدة الصغيرة , فى حين تبعته أنا و إبن خالتى , و كلى لهفة على خوض التجربة الأولى فى ( تطليع العفاريت ) , حيث دار بيننا حوار هامس .
أنا : انت متأكد إنه بيطلع عفاريت بجد ؟
إبن خالتى : يابنى الناس هنا كلها بتحكى عنه
أنا : بس انت عارف ان الموضوع كله ممكن يكون دجل و شعوذة و كده !
إبن خالتى : عارف, لكن الشيخ البحيري أنا أعرفه من زمان .. راجل محترم و بتاع ربنا بجد.
أنا : أنا بقالى فترة بأقرأ فى كتب العفاريت و المس الشيطانى , لكن بيني و بينك حاسس ان كله دجل فى دجل !!
إبن خالتى : معاك حق إذا كان بياخد فلوس .. ده بيعمل كده خدمة للناس بس .
أنا : يعنى مش حيطلب من الست دم ديك أحول , أو مصارين بطه عورة و كده ؟
إبن خالتى : هههههههههههه .. هو بيطلع العفاريت بالقرآن , و بس .. مش أكتر من كده !
أنا : حاسس إنى مش حأبطل ضحك , و الموضوع كله لعب فى لعب !
إبن خالتى : طول بالك .. كلها دقايق و تشوف بفسك !
..............................................................
إستقبلتنا والدة ( فطوم ) على عتبة البيت الصغير بحياءٍ ريفي جميل , و قد غطت جزء من وجهها بطرف غطاء رأسها ... قادتنا إلى غرفة يغلبها الظلام فى مدخل البيت , و قبل أن تنصرف مستأذنه أن تنادي إبنتها - فطوم - الفتاه الملبوسة من الجن , طلب منها الشيخ البحيري أن تأتيه ب ( حلة ) مملوءة بالماء.
الغرفة ضيقة نوعاً ما , تنتشر براويز بسيطة بعشوائية على جدرانها الغير مطلاه... سقفها عالٍ تتوسطه لمبة صغيرة مخنفسه , أزاحت بعضاً من ظلام يكفى لأن أتبين محتوياتها التى لم يكن بها إلا كنبة عربى و أربعة كراسي خشبية .. ثم منضدة صغيرة تتوسط الغرفة , ثم شباك صغير يطل من وراء أسياخ حديدية .
جاءت جلستي على الكنبة المجاورة للباب مباشرة , و كأن اللاشعور إختارها لى حتى يتسنى لى الخروج سريعاً , إذا ما تعقدت الأمور و طلع إن فيه عفاريت بجد !!
ساد صمت قصير قبل أن أقطعه , موجهاً حديثى للشيخ البحيري
: قول لى يا شيخ بحيرى .. هو الجن بيلبس الإنسان إزاى ؟
قال : عن طريق فتحة الشرج , و غالباً بيكون فى الأماكن الخربة أو المظلمة أو دورة المياه أو ما شابه .
قلت : طيب إفترض يعنى إن العفريت اللى انت حضرته , رفض يخرج ؟
إبتسم إبتسامه كلها ثقة و تمكن ... أغمض عينيه قليلاً , ثم قال و هو يلعب بحبات المسبحة بين أصابعه:
ما يقدرش ما يخرجشي .. أنا عارف ممكن أخرجه إزاى .
أردفت : إفترض يعنى يا شيخ بحيري , مجرد إفتراض يعنى .. لو قالك يعنى : مش خارج ؟
قال و ما زالت إبتسامه الثقة على شفتيه : لو رفض يخرج بهواه ..يا إما أحرقه , يا إما أخللى اللى معايا يساعدونى أخرجه غصب عنه .
قلت, و قد تملكنى الخوف قليلاً : هم مين دول اللى معاك ؟ .. مافيش غير أنا و ابن خالتى !!
قال ضاحكاً : ههههههه .. لأ .. مش قصدى عليكم ... قصدى على ابراهيم و فاطمة .
قلت بصوت مكتوم : ابراهيم و فاطمة مين ؟
قال بهدوء : دول أصدقائى من الجن .. مسلمين , و دايماً مرافقنى فى الحالات دي , و بيساعدونى إذا رفض الجن إنه يخرج من نفسه !
قلت و الخوف كله قد ملك كلماتى : يعنى قصد حضرتك إن إبراهيم و فاطمة معانا دلوقت ؟
قال و الابتسامه لم تفارقه : طبعاً طبعاً .. هو أنا بأمشي من غيرهم !!
بدأ الخوف الحقيقي يتسرب داخلى قليلاً ... حتى قبل لحظاتٍ من الآن , فالموضوع كان أقرب إلى الهزار منه إلى الجد , لكن ثقة الشيخ البحيرى , و نبرات صوته الواثقة الصارمة , و إبراهيم و فاطمة الجالسان معنا دون أن أراهما , قد حول الموضوع برمته إلى خانة الجد اللى مافيهاش هزار أبداً ...
أصوات كثيرة داخلى بدأت تحثنى على مغادرة المكان فوراً ... فالقراءة شيء , و الواقع شيء آخر تماماً !
ماذا إذا لو صدق الشيخ البحيري , و طلع فيه عفاريت بجد ؟؟
يا نهار مش فايت !! ... أنا أشوف عفريت !!!
... و بالفعل اتخذت القرار بالإستئذان لأى حجة كانت , لكن قبل أن أهم بذلك , دخلت علينا والدة فطوم , تحمل ( حلة ) مليئة بالماء , و خلفها فطوم .. فتاه عشرينية العمر . سوداء اللون , ما عدا أسنانها البيضاء اللامعة التى جعلتنا نعرف وجهها من قفاها .. قصيرة نوعاً ما , جسمها منبعج , شعرها منكوش , حتى حسبت أنها هى العفريت بشحمه و لحمه !
وضعت أم فطوم حلة الماء على المنضدة أمام الشيخ البحيري , ثم اتخذت مجلسها على الكرسي المجاور لإبن خالتى ... أما أنا , فما زلت منفرداً فى الكنبة العربي جنب الباب , و قد هيأت نفسي للطيران من الباب المجاور , إذا ما تحقق أياً من كلام الشيخ البحيري !
فس الشيخ البحيري مسبحته فى جيب جلبابه ... إعتدل فى جلسته , إختفى هدوء وجهه لتحل بدل منه تكشيرة خوفتنى أكتر مانا خايف ... , قطب جبينه , و لف طاقيته البيضا الشبك بيديه و أحبكها على رأسه ....تنحنح , ثم كح كحة مصطنعة , ثم وضع يده اليمنى على أذنه , ثم أطلق العنان لصوته , ليشق السكون المخيف برفع آذان بلا موعد , تقشعر معه جسدى من قمة رأسي حتى إخمص قدمى , فى حين هبت أم فطوم واقفة لتحكم غلق الشباك , حتى لا يسمع الجيران ما يدور , و البنت على وش جواز !!
بعد أن انتهى من رفعه للآذان ... رجع السكون المرعب مرة أخرى يغلف جنبات المكان ... قطعه الشيخ البحيري بأن مسك فطوم من إبهام إصبعها .. ثم راح يتلو بعضاً من الآيات القرآنية
( و الصافات صفا .. فالزاجرات زجرا .. فالتاليات ذكرا .. إن الهكم لواحد .. رب السموات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق )
ثم ينفخ فى الماء
( ... إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب .. و حفظاً من كل شيطان مارد .. لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى و يقذفون من كل جانب .. دحوراً و لهم عذاب واصب )
ثم ينفخ فى الماء
( أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ... إنا جعلناها فتنة للظالمين )
ثم ينفخ فى الماء
(... إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم ... طلعها كأنه رؤوس الشياطين ..)
ثم ينفخ فى الماء
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تاخذه سنة و لا نوم , له ما فى السموات و مافى الأرض , من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه , يعلم مابين أيديهم و ما خلفهم ... )
ثم ينفخ فى الماء
راح الشيخ البحيري يتلو آيات من بعض السور القرآنية , و التى تدور حول الجن و الشياطين , ثم ينفخ فى الماء الذى أمامه كلما انتهى من قراءتها .
ثم بعد أن انتهى , نظر بعين ثاقبة إلى فطوم .. التى زاغت نظرات عينيها , و تجمد وجهها بلا ملامح .. وضع يده الأخرى فى حلة الماء , ثم قام برش وجهها به , فراحت تزوم ثم تزمجر ثم أعقبتها بصرخة إنشق لها قلبي نصفين ... حاولت الوقوف لكى أنفد بجلدى من هذا الجو العفاريتي , لكن مخى قد توقف عن العمل و لم يرسل لقدمى أى إشارة بالوقوف !!!
جذب الشيخ البحيري يد فطوم بقوة و ما زال ممسكاً بإبهامها بكل قوة , قائلاً بصوت حازم :
مين معايا ؟؟
أجابت فطوم بصوت متحشرج : أنا الشيخ حسن!!
بنفس الحدة و الجدية قال الشيخ البحيري : و انت مالك و مالها يا شيخ حسن ؟
قالت أو قال : أنا مش بأذيها !
قال الشيخ البحيري : يا شيخ حسن أنت من الجن و من إسمك فأنت مسلم , و لا يحل لك جسد بنى آدم !!
قال أو قالت : أنا بأصلي و باصوم و مش بأذيها
قال الشيخ البحيري : ( فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا )
قال أو قالت : أنا أول مرة ألبس إنسية , لكن مش بأذيها ... هى اللى أذتنى !
الشيخ حسن : آذتك إزاى يا شيخ حسن ؟
قال أو قالت : دلقت عليا مية من الشباك و أنا رايح أصلي الفجر من غير ما تسمي !!
قال الشيخ البحيري بهدوء عجيب : ( يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا )
قال أو قالت : هى اللى غلطانة . . و مش حأخرج منها !!
قال الشيخ البحيري بكل صرامة : ( قال فاخرج منها فإنك رجيم .. و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين )
استمر الحوار و الجدال بين الشيخ البحيري الآدمى المصمم على تطليع العفريت بالذوق و بآيات القرآن الكريم , و الشيخ حسن العفريتي المصمم على القعدة جوه فطوم بالعافية , و أنا أتابع ما يجري غير مصدقاً ما يحدث أمامي ... شعر جسدى قد وقف عن آخره و تفصد العرق من كل مسام جسدى و تسارعت ضربات قلبي لتتعدى الألف فى الثانية ...
وقف الشيخ البحيري , و ما زال ممسكاً بقوة بإبهام فطوم , قائلاً بلهجة حازمة و كأنها الإنذار الأخير :
يعنى مش عايز تخرج منها بهدوء ؟
الشيخ حسن العفريتى : لأ .. مش حأخرج !
الشيخ البحيري : طيب ... بص كده فى الأوضة !! ... أنا معايا اتنين من جنسك .. من الجن المسلمين الطيبين, و بيساعدونى إذا إنت رفضت تخرج بهدوء ... شايفهم ؟
الشيخ حسن العفريتى : أيوة شايفهم ... قاعدين على الكنبة اللى جنب الباب !
... ما إن نطق الشيخ حسن العفريتى بتلك الجملة الأخيرة , إلا و قد تجمد الدم تماماً داخل عروقى ... و توقف قلبي تماماً عن النبض , و رفض الزفير أن يخرج من صدرى بتاناً البته !! ..
يا نهاااااااااااار أسود من وش فطوم !!!! ... ابراهيم و فاطمة قاعدين على الكنبة اللى جنب الباب !!!! ... يعنى اتنين عفاريت قاعدين جنبي دلوقتى !!!!!!!!!!!!! ...... الله يخرب بيتك يابن خالتى و يخرب بيت اليوم اللى شفتك فيه !!!
ضممت فخذىٌّ بكل قوة , و ألصقتهما ببعضهما البعض , لمعرفتى مسبقاً كيف يلبس العفريت بنى آدم !!
و بصوت كالسيف صرخ الشيخ البحيري فى الشيخ حسن العفريتي : قلت إيه ؟ أخليهم يساعدونى و لا تخرج لوحدك ؟
باستكانه قال الشيخ حسن العفريتي : لأ .. خلاص .. حأخرج لوحدى
بهدوء و ابتسامة مفاجئة بعد عبوس طويل قال الشيخ البحيري : تخرج من صباع رجلها الصغير !
بصوت ذليل قال الشيخ حسن العفريتي : حاضر
بلهجة آمرة عابس وجهه مرة أخرى قال الشيخ البحيري : أوعى تطلع من عينيها أو من فرجها ؟
قال الشيخ حسن العفريتى بكل هدوء : حاضر
شد الشيخ البحيري يد فطوم مرة أخرى بقوة , لافحاً إياها ببعض من الماء المتعفرت على وجهها , فانتبهت لتعود إلى ملامحها بعض الحيوية التى افتقدتها طوال دقائق , و بدت كأنها عادت للحياه مرة أخرى .. أقبلت عليها أمها مسرعة تحتضنها , فى حين ابتسامة نصر مظفر على محيا الشيخ البحيري الذى تلقى كلمات الشكر و الثناء و الدعوات من أم فطوم بأن يكتر الله من أمثاله و يحميه و يجعل له فى كل خطوة سلامة و ما يرميه فى ضيقه أبداً قادر يا كريم !
إلتقط ابن خالتى يدي ليساعدنى على الوقوف .. وقفت بكل صعوبة , و بدات أمشي , لكن ضامّاً فخذٌىٌّ بكل قوة , خائفاً من الشيخ حسن العفريتي أن يشعر بالبرد , فيبحث له عن مدفأ آخر ..... غير فطوم !!