(( سلامات يا حبيب ... يابو طبع عجيب ))
دائما ما أبدأ يومى فى الصباح الباكر مرغماً على سماع تلك الأغنيه التى لم أسمعها قط قبل ذلك .. لم تفلح قصاصات ورق الجرائد التى حشوت بها فراغات ضلفة الشباك فى منعها من إقتحام شقتى عنوة , لتجبرنى على أن أبدأ يومى قبل خلق الله بساعتين تلاتة على الأقل .لست أدرى, ما السر وراء استفتاح بائع الخضار هذا يومه بأغنيه ؟!! ..... تلاوات من الذكر الحكيم يا عم الحاج !!.....أو إبتهالات أو تواشيح دينية , على الأقل !!!! ... لكن أغنية تبدأ بها استفتاح رزقك !!!!
و لكن لماذا يختلف عن أقرانه, فكل سكان المنطقة هنا بعيدون تماما عن تلك الروحانيات التى تربينا و نشأنا عليها .
..............................................................................................................................................................
(( سلامات ياحبيب ... يابو طبع عجيب ))
.. دائما تبدأ مع انبثاق أول ضوء من الصباح ... حيث يبدأ سكان تلك المنطقه الجاثيه على أطراف القاهره فى السعى وراء رزقهم ... يتجمعون فى محطه الأتوبيس , و التى تقع على بعد أمتار من (بلوك 5 ) الذى أسكن دوره الرابع,.. يتزاحم الكبار مع الصغار و السيدات مع الرجال.. و الزحام أصبح شيئاً من عاداتهم اليوميه ..... تشابه إلى حد التطابق فى الصفات و الأخلاق الوضيعه و الألفاظ المتدنيه , يجمعهم.. نادراً ما أرى وجهاً لم تطله ندبه , أو آثار لمعركه قديمه أبت ألا تمر دون أن تترك ذكرى على الوجوة المتعبة .
و ما إن يتراءى الأتوبيس من بعيد , إلا و تبدأ الأجساد المنتظرة فى التحرك و التحفز ,و كلٌ قد إنتوى أن يكون أول الراكبين , و لو أطاح بكل منافسيه أرضاً ... حتى إذا ما إستقر الأتوبيس فى مكانه , تتحول الساحه إلى معركة حقيقيه , تستخدم فيها الأرجل و الأيدى و الأجساد مطعمه ببعض الألفاظ المتداولة هنا من عينه ( حاسب رجلى يابن الكلب ) ..... ( ديل الفستان يا روح أمك ) .. ( عليا الحرام لأغزك بس لما نخش جوه ) !!!
و لا مكان ( لمحترمٍ) بين الركاب , و إلا مصيره خارج الأتوبيس أو على الأقل متعلقاً بالباب طوال الرحله. و بالطبع لا وجود ( لتاكسى) داخل هذا الوكر, فأى شجاعٍ هذا من يدخل بسيارته هناك؟ !!! و إذا ضمن سلامه عودته, فكيف يضمن سلامه عربته ؟, لذلك, لا مفر من التزاحم و إلا, فيوم دراسى ضائع
...........................................................................................................................
سلامات ياحبيب ... يابو طبع عجيب
مع دخول النهار, تبدأ كلمات الأغنيه تتوارى شيئاً فشيئا بين ضجيج الناس و صراخ الأطفال ونباح الكلاب الضاله التى تملأ المنطقه..سيمفونيه شاذه جداً من تأليف أصم, لا يمل عازفوها من العزف طوال اليوم ... و أما الليل, فتتكفل الكلاب بالعزف المنفرد, حتى يحين موعد ( سلامات ياحبيب.. يابو طبع عجيب) مع نسائم صباح اليوم التالى
...................................................................................................................................................
لم يمر وقت طويل حتى بدأت أعرف السر وراء تجمع كل تلك الوجوه و الأخلاق , و أيضا الأسماء فى منطقه واحده..منطقه (الزلزال).. هكذا كان ينادى كمسارى الأتوبيس عند الوصول للمحطه : اللى نازل الزلزال.. اللى نازل الزلزال.. , حيث تكفلت الدوله بتسكين كل من تهدم بيته فى أنحاء القاهره من جراء زلزال أكتوبر الشهير, فى تلك المنطقه, و قد كان خطأً عظيما, فقد تجمعت كل بؤر الفساد , فى معين واحد.., و ماذا تتوقع من ( أحمد البطل و يحيى جيزه و حماده عجيجه و مجدى أورمه و جمال فيديو و محسن شبطه و مطرب الحى ناصر أندلس .. و سميره الدكر (موردة البانجو)..و ...و ...و
حتى الأطفال, لم يكن لديهم من الطفوله سوى العمر فقط, فغالبيتهم منتشرون كالذباب... أصغرهم من بالكاد يستطيع المشى , و أكبرهم يشارف البلوغ......حفاه الأقدام..عراه, إلا من شىءٍ بسيط يستر أعلاهم ... شعرهم لم يغسل تقريبا منذ ولادتهم, مع التراب المتراكم , اصطبغ بلونٍ أقرب الى الرمادى.... أجسادهم نحيله .... وجوههم شاحبه تعكس حاله أمعائهم الممتلئه بالديدان و ما شابه.. هوايتهم العجيبه كانت فى مطارده و اصطياد الدجاج, ثم الجلوس فى دائره, ثم نزع ريشه وهم يهللون و يرقصون كآكلى لحوم البشر فى العصور السالفه !!
و أما الشباب فهو يبدأ مبكراً جداً, و متأخراً جداً أيضاً ينتهى. ...و مقاييس الشباب هى تدخين البانجو.. شم الكلّة ... مطواه (قرن غزال) أعلاها دائما يبرز من الجيب الخلفى..معاكسه البنات.. لعب الكوتشينه على المقاهى.. إفتعال المعارك بسبب و غالباً بدون سبب !
حتى السيدات – تجاوزًا - , لم يسلمن أيضاً من تلك الصوره, فما إن ينصرف أزواجهن صباحاً حتى يتخذن مجلسهن أمام أبواب بيوتهن - إن كانوا من ساكنى الأدوار الأولى -, أو البلكونات - لساكنى الأدوار العليا - , ينخرطن فى حديثٍ طويلٍ مسموع لكل من يريد أن يسمع , و من يريد ألا يسمع ...وبالطبع كل أسرار الليل , يتم نشرها نهاراً !
.... هكذا كان يومى إذا ما فاتنى الأتوبيس !!
......................................................................................................................................................
إنتهت السنه الدراسيه , و جاء وقت الرحيل.... لآخر مره سأركب أتوبيس15 ..النهاردة ما فيش هزار .. فهى رحلة الذهاب .... بلا عودة إن شاء الله ....حأركب يعني حأركب ..تلك المرة مختلفه .. فى كل شيء مختلفة .. المرة دى الشيلة تقيلة , حيث ترافقنى حقيبتي .. و إذا اتبعت الطريقة العادية فى الركوب كما كنت أفعل سابقاً , فهناك إحتمال من ثلاثة .. إما أن أركب أنا وحدى دونها .. أو تركب هى وحدها دونى .. أو نكون أنا و هى خارج الأتوبيس غير مأسوف علينا .. لذلك عندما بدأ الأتوبيس يلوح من بعيد , حملتها فوق رأسي , مستعداً لنزالٍ حتى الموت .. لذلك خلعت عباءة الدكتور أحمد المؤدب الذوق المحترم بتاع : ممكن لو سمحت حضرتك !!
, و لبست عباءة حمادة الشوضلى بتاع : وسع يا روح أمك انت و هو بدل ما أطلع بوز أم اللى جابوك !!!!
ما إن توقف الأتوبيس حتى إندلعت المواجهه الحتمية .. دست على قدم هذا .. و دفعت بطن هذه .. شتمنى هذا و سبني هذا و هذه .. أطحت أرضاً بهذا و أطاح شنطتى هذا و هذه .. انصهر جسدى مع الأجساد المتنافسة على الركوب حتى صرنا مثل موج البحر .. نروح للباب سوياً .. ثم ننسحب بعيداً عنه سوياً .. تمسكت بحقيبتي فوق رأسي , حتى وجدت أرجلى قد ارتفعت عن الأرض لتستقر على أول درجة من سلم الأتوبيس .. تشبثت بالفرصة اللى مش بتيجي كتير .. ثم لحظات أخرى من الدفع و التدافع حتى استقرت بي الأمور داخل الأتوبيس ملتصقاً بالشباك , بعد أن فقدت الكثير من الإحترام , و كل الشياكة !!!! حيث خرج القميص بعشوائية خارج البنطلون , و تطايرت معظم أزراره , لتبرز الفانلة الداخلية و كأننى يحيي جيزة فى زمانه !! ... شعرى الممشط سابقاً أصبح فى حالة رثة .. تمكن العرق من كل جسدي , فأصبحت مثل الكتكوت المبلول .. حتى إستحالت هيئتى تماماً مثل السكان الأصليين لمنطقة الزلزال !!!
جعلت من شنطتى كرسي بجانب الشباك الخلفى , فى حين انبعج باب الأتوبيس كالعادة بالمتشعبطين قليلي الحيلة , ممن لم تمكنهم مهاراتهم من مجاراه أمثالى فى الركوب بإحترافية .. معبأه أفواههم بالسباب لمن بداخل الأتوبيس حتى يتزاحموا أكثر ليتسنى لهم الدخول .. لكن, من بداخل الأتوبيس لا يتحركون !! .. فمن وجد مكاناً لقدمه, لا يضمن أن يجده إذا ما تحرك !! .... و من ( أوجد) مكاناً لنفسه خلف فتاه, فالموت وحده كفيل بأن يحركه !! ..و لكن بين الحينه و الأخرى, يقوم السائق ( الخبير ) بفرمله قويه, تجبر الأجساد المتحجره على التحرك الى الأمام, يعقبها بالقطع أقذر الشتائم له و لمن أجاءه الى تلك الدنيا..... فهذا ( فقد مكانه) .... و هذا ( فقد من أمامه ) ..... و أيادٍ كثيره خرجت من ( جيوب جيرانها( !!!!
...........................................................................................................................
مر الأتوبيس من أمام ( بلوك 5) .... ألقيت على بلكونة شقة الدور الرابع نظرة الوداع الأخيرة .. قرأت عليها الفاتحة و ما تيسر من بعض قصار السور ... حتى ما إن وقعت عيناى على بائع الخضار الذى مازال منهمكاً فى رش الماء أمام المحل, فتحت الشباك المتاخم لى.. جاءتنى ( سلامات ياحبيب... يابو طبع عجيب) ... و لكن جاءنى معها من الخلف : اقفل الشباك ياابن ال................؟