طبيب – لا مؤاخذة – امتياز !! لم أنم طوال الليل .. كنت أقضى الوقت متنقلاً ما بين باب السكن الذى أقطن دوره العلوى , و ما بين شباكه المطل على بوابة دخول المستشفى على الشارع الرئيسي ...حفظت عن ظهر قلب الوريقات التى إحتفظت بها من ( يحيي ) .... , صديقي الذى يكبرنى بعام و يعرف أكثر منى بقرون !! (( مغص كلوي ......... خلالجين مغص معوى .......... بسكوبان صداع ... ...............نوفالجين حساسية ................. أفيل عضه كلب .............21 حقنه فى البطن جرح قطعى ............. حقنه ضد التيتانوس )) لم تكن المشكلة أبداً فى الخلالجين , و لا فى عضة الكلب , و لا فى أي مما ورد فى هذه الوريقات !! .. المشكلة الأعظم كانت فى حالات الولادة !!! ... ماذا يفعل طبيب إمتياز إذا ما فاجأته حالة ولادة و هو لم يرها قط قبل ذلك إلا خلسة من وراء نائب النساء فى المستشفى العام قبل أن يتم توزيعه على هذه المستشفى المركزية النائية الجاثية على أطراف هذه المدينة الصغيرة !!!!! مستشفى يهجرها أطباؤها بعد صلاه الظهر , حتى صبيحة اليوم التالى , و لا يبقي بها إلا طبيب الإمتياز يقوم بأعمال النائب و الأخصائى و الإستشارى أيضاً !!! ماذا يفعل طبيب إمتياز بحصيلته العملية التى لا تتعدى بضع غرز جراحية و مساعدة فى عملية بواسير و وريقات ورثها من صديقه !!! إنقضى نهار أمس و قد نجحت فى إخفاء ( خيبتى التقيلة ) أمام الممرضات اللائى كن فى شغف لإستكشاف الدكتور الجديد .. لم أتكلم كثيراً أمامهم , لا عن تأفف , بل حتى لا يتسبب كثرة كلامى فى كشف المستور !! .. إنزويت معظم الوقت فى المكتب الملحق بغرفة الإسعاف , أتكلم بالإشارة .. أو بالكلمات دون أن أنظر لهم .. أأمرهم بكل ثقة بالخلالجين و البسكوبان والأفيل , فشر مجدى يعقوب !!! إنقضاء النهار على خير ليس معناه أن يستمر الخير لصبيحة اليوم التالى ... حتى كلمات دكتور خليفة, نائب النساء المناوب معي , و التى قذفها فى مسامعي قبل أن يختفى إلى عيادته الخاصة , لم ترفع سقف الطمأنينه و لا الأمان لديّ أبداً ... : ما تقلقش يابوحميد من الولادات ... الولادة اللى حتجيلك حتكون يا إما أول مرة تولد , يا إما ولدت قبل كده ... فى كلتا الحالتين مش حيولدوا قبل خمس ست ساعات .... حتفحصهم فحص روتيني و بعد كده اتصل على تليفونى حتلاقيني عندك فى أقل من خمس دقايق ! لم تفلح كلماته تلك أن تنزعنى من الرعب الذى أعيشه خوفاً من تورطي فيما لم أقدر على تخيله ... التصقت بشباك غرفه السكن, متابعاً من خلال فتحات ضلفته الخشبية كل من يلج من باب المستشفى...و إذا ما ابتعدت عنه , فأذنى معلقة بأصوات السيارات المارة على الطريق الرئيسي , أتابعها منذ أن يكون صوتها فحيحاً ... ثم هديلاً ...ثم هديراً .... ثم ضجيجاً .. ثم يخفت مرة أخرى و يعود فحيحاً مثلما بدأ .. إلى أن تتجاوز بوابة المستشفي !! يتوقف قلبي كلما زاد ضجيج السيارة المارة .. و لا ترجع روحى إليّ مرة أخرى , إلا بعد أن يخفت الصوت معلناً إنتهاء الغارة . لم أدرِ كم من الساعات مرت و أنا فى حالتى تلك , متابعاً أصوات السيارات .. و أصوات المارة .. و أصوات قلبي التى غلب ضجيجها على الجميع . حاولت التظاهر بالنوم ... صنعت من رأسي ساندويتش بين مخدتين , لعل هذا يأخذنى إلي عالم آخر بعيد عن عالمي المتصارع هذا .. لكن... هيهات !!! ما زال الفحيح فحيحاً .. بل أوضح مما سبق .., بل و زيد عليه جحافل من الأفكار السوداوية التى صبغت مخيلتى بمسحة من الرعب و الفزع !! ... ليس عندى أى مشكلة مع المرضى من الرجال ...لن يخرج الموضوع برمته عن خلالجين أو بسكوبان أو حقنة لعضة كلب .. لكن النساء .. و ما أدراك ما النساء , خاصه من انتفخت بطونهن !!!! ... سترك يا ستير !!! أكثرت من قراءة ماتيسر من الذكر الحكيم .. و ما استيسر من أحاديث المصطفى , ثم دعوات إلى رب العالمين أن يحفظ عليّ هيبتي ( الدكتورية ) , و أن يحفظها الله من كل ولادة أرادت بها تمريغاً فى الوحل , أو تهزيئاً أمام الممرضات , أو تقصيراً أمام أهل المريضة , و أن يطوي هذا الليل بسرعة و يجعله مثله مثل نهاره !! لكن , يبدو أن دعواتى قد ضلت طريقها إلى السماء .. إذ طال وقت ضجيج سيارة مارة !! لم يرجع الصوت أدراجه فحيحاً مرة أخرى !ّ!!! توقفت السيارة أمام بوابة المستشفى ... إختلط ضجيجها بضجيج أصواتٌ متداخلة .. رجالاً و نساءا ... ثم صرير صوت البوابة يُفتح .. قفزت من سريري باتجاه الشباك , إختلست نظرات من بين فتحاته , لأرى ما جعل الدماء تتجمد فى عروقى !! ... إمرأة حامل تتدحرج من البوابة بين زراعي مرافقتين لها !!! ...... يادى الليلة اللى مش حيطلع لها نهار !!! ثوانٍ أو دقائقٍ مرت كالبرق , أعقبها ضجيج خطوات متزاحمة على سلم السكن .. ثم خبطات كادت أن تطيح بالباب من مكانه .. حاولت لملمة بعضاً من شجاعتى التى ذهبت مع النوم ... و ببعض من رباطة جأش تظاهرت بأننى كنت أغط فى نومٍ عميق , أطلقت حشرجة بين ثنايا صوتى : ميييييييين ؟ : افتح يا دكتور بسرعه .. أنا سهام ممرضة النسا ... عندنا حالة ولادة بسرعة فتحت الباب مغمضاً نصف عينى , ناكشاً شعرى المستوى قبل قليل , لأجد سهام و فى ذيلها كل طقم الممرضات !! ... الله يخرب بيوتكم جميعاً .. جايين تتفرجوا عليا و لا تشمتوا فيا و لا إيه بالضبط !!!!! : طيب يا سهام روحى انتى و أنا جاي وراكى : ما ينفعش يا دكتور ... الست بتولد !! : طيب حتى البس البالطو بس!! : طيب بسرعة الله يخليك .. العيل حينزل !! .... يا نهار منيل بستين نيلة ... عيل إيه اللى حينزل ده ... و المفروض يعنى أنا اللى أنزله !!! ... يارب ينزل لوحده و أنا فى الطريق ياااااارب !! .. إنطلق الجمع الذى أتوسطه .. تسبقنى سهام و أخريات ... و تتبعنى الأخريات الآخرات ! توقف مخى تماماً عن العمل ... حاولت استحضار أى مما لقنه إياي الدكتور خليفة ... الحمد لله تذكرت أهم شىء قاله لي ... كلمنى فى التليفون و سأكون عندك بعد خمس دقائق .. عقدت العزم على تطبيق الخطة التالية ... أدخل إلى غرفة التليفون مباشرة ... أستنجد بالدكتور خليفة .. ثم أذهب إلى غرفة الولادة .. أتظاهر بأنى أفحص المريضة .. و كلها خمس دقايق و ييجي الطبيب !! .. بس خلاص .. و ينتهى هذا الكابوس ! وصل الحشد إلى مشارف غرفة الولادة , المجاورة لغرفة التليفون ... إتخذت سبيلي مباشرة إلى غرفة التليفون , لكن جذبتني سهام من يدى قائلة : غرفة الولادة من هنا يا دكتور! : أيوة .. أيوة عارف ... بس الدكتور خليفة قال لى أكلمه على أى حالة ولاده .. واجب برضة أبلغه : تبلغه إيه يا دكتور !! ...الست زمانها ولدت ... بسرعة بسرعة خللى الدكتور خليفة بعدين مازالت سهام تجذبنى من يدي , لكن فى هذه المرة انضم اليها طقم الممرضات بأكملهم , و كل بما يقدر عليه من جذب و دفع بإتجاه واحد فقط ... غرفة الإعدام .... أقصد غرفة الولادة !!!! فجأة ... وجدت نفسي داخل غرفة الولادة, التى اكتظت بطقم الممرضات المتحفزات الشامتات المنتظرات أمراً دعوت الله ألا ينلنه !!! المريضة قد وضعوها فى وضع الولادة , و صوت صراخها أسمع كل من بالمدينة ... ( يارب تسمعه يا دكتور خليفة ).. و جزء من رأس الجنين قد برز خارجاً و قد أعلن عن نيته فى الخروج إلينا بعد لحظات قليلة .. و قليلة جداً !!! : بسرعة يا دكتور البس الجوانتى .. بسرعة تداخلت الأحداث كلها سريعاً فى بعضها ... لبست الجوانتى .. سهام بيدها المقص تحشره حشراً بين أصابعى ... قص يا دكتور ... قص يا دكتور بسرعة .... قص الدكتور ... اتولد العيل .... الدم فى كل مكان ... غرز فى كل ما وقعت عليه عيناي و يداي .. نظرات من سهام تحمل ألف معنى ... تبدلت الأدوار .. ماسك الإبر بيد سهام !!... المنشفة بيد طبيب الإمتياز!! ...همهمات جانبية و تساؤلات و نظرات و تلميحات و تلميزات من طقم الممرضات المتواجدات بالغرفة !!! فى الصباح تم تحويل طبيب النساء المناوب إلى التحقيق ! فى حين تم فتح غرفة العمليات على عجل لإصلاح ما أفسده ...... طبيب الإمتياز !!عرفها أعرفها فى وقتها |