عـم إبراهيم
برغم الكحه الشديدة التى كانت تنتابه بين كل نفسٍ و آخر , إلا أن هذا لم يثنه أبداً عن ترك سيجارته
ياعم إبراهيم , صحتك بالدنيا , أنا خايف عليك و الله! :
يسحب منها نفساً طويلاً , كمعشوقٍ مشتاقٌ إلى رائحه معشوقته , فيكتم دخانها فى أعماقه , ثم يبدأ التكلم بمزاجٍ عالٍ و قد أسبل جفنيه , إلى أن تبدأ سحب الدخان تنبعث من داخله ممتزجة بحروف كلماته
الأعمار بيد الله يا دكتور أحمد , خليها على الله :
! و نعم بالله يا عم إبراهيم , إن لبدنك عليك حق :
عشانك إنت أنا حاحاول .. ثم يقهقه بصوت متحشرج : بس ما اوعدكش .. ههه كح كح كح هههه كح كح
يستند بظهره الذى أحناه الزمن, على كرسي بالٍ و بجواره جردل به ماء عكر و داخله فوطة مائله للسواد دائماً برغم أنها منقوعه أربعه و عشرين ساعه يومياً فى جردله , ثم بين الحينه و الأخرى ينتفض إذا ما رأى زبوناً قد أتى إلى إستقبال مستشفى جمال عبد الناصر , يسحب فوطته الغارقه بالماء , ثم يعصرها على قدر إستطاعته , و ينطلق فى همه إلى آداء مهمته طمعاً فى بقشيش سخي
: مش حترحم نفسك بقى من غسيل العربيات ده يا عم ابراهيم ؟
!! و اشترى سجاير منين يا دكتور أحمد ؟ ده المرتب ما بيكفينيش عشر أيام :
( و مين سمعك يا عم إبراهيم .. أنا أيضاً مرتبى الذى لا يتجاوز مائه و سبعون جنيهاً لا يكفى لخمسة أيام , و ربنا يبارك فى مستوصف الحاج سعد عطيه و مستوصف إسنا , و إلا كنت أكملت باقى الشهر مستديناً )
: ألا بالمناسبه يا دكتور أحمد , مش حتخليني أمسح لك عربيتك بقى ؟؟؟ و الله ده أنا حأخليهالك مرايه
( عربيه إيه بس يا عم إبراهيم !!!! ده أنا باتشعبط كل يوم فى الأوتوبيس , أو محشوراً فى مشروع كسردين داخل علبه)
: إن شاء الله يا عم إبراهيم , بس المشكله إنى بأركنها عند البوابة التانيه , و أخاف أضايق عم سيد لو نقلت العربيه عندك , هو برضه راجل كبير زى ما انت عارف و بيصرف على كوم لحم!
: قلبك طيب يا دكتور أحمد و الله .. أصيل و ابن ناس صحيح , معاك حق .. الله يكون فى عونه .. ده أنا مش قادر أصرف على نفسي و أنا مقطوع من شجرة , أمال هو بيعمل ايه ؟ الله يسهل له .
ثم كنت ذات يوم قادماً فى الصباح الباكر من نوباتجيه ليل فى مستوصف الحاج سعد عطية بالرأس السوداء , و قد انتفخ جيبي بالخمسة جنيهات جراء سهر الليل بأكمله , متوجهاً إلى مكان عملى بالمستشفى , متشعبطاً متشعلقاً كالعادة على سلم الأتوبيس , و قد تدلى جسمى و آخرين معى خارج الأوتوبيس تماماً , لا تربطنا به إلا أيدينا فقط المتعلقه و المتشبثه بقوة بعمود الحديد على بابه , و جزءٍ من أقدامنا على درجات سلمه .
دائماً , تنشأ علاقه حميمه بين المتعلقين خارج الأتوبيس , نتبادل النكات و القفشات , نزحزح أقدامنا قليلاً حتى يتسع المكان لقدمٍ أخرى , نساعد صاحبها أن يجد ليده أيضاُ مكاناً بجوار أيدينا المتشبثه , و قد يقوم أحدنا بإمساكه من ظهره جيداً , إلى أن يستقر به المقام بيننا و يطمئن عليه تماماً , ثم يتركه فى إنتظار متشعلقٍ آخر ...
فى إحدى المحطات كان هناك - كالعادة - جمع غفير من راغبى الركوب , و قد إزدحم السلم تماماً بالأقدام و لم يعد هناك أى مكان لقدمٍ أخرى , لكنه رغم ضآله جسمه و كبر عمره , حاول أن يحشر قدمه بين أقدامنا , لم نستطع إلا أن نساعده كالعادة
: على مهلك يابا .. أوعى بس تقع
كان يجاهد للركوب , و قد أخفى ملامح وجهه تماماً ب( تلفيعه ) صوف تقيه من برد شهر يناير , لم تظهر منه إلا عينيه , و قد تكفلنا نحن المتشعلقون بمساعدته , بالكاد حشرنا يده بين أيدينا , و احتضنه أحدنا بكل قوة من ظهره , بينما سألته أن يضع قدمه فوق قدمى إلى حين أن يفرغ له مكاناً ... ثم بعد أن إنطلق الأتوبيس , و استقر به الحال , استجمع بعض الكلمات لتخرج منه متقطعة بين أنفاسه المتلاحقة
: متشكر ليكم يا جماعه ... كلكم ذوق و الله
: العفو يابا .. الناس لبعضها
قال و هو يرفع عن وجهه تلفيعته :
: الله يكرمك ... طول عمرك ذوق يا دكتور أحمد !!!
أدرت وجهى إليه حتى كادت عيناي أن تفلت منى .. فلم يكن المتشعلق الجديد إلا ... عم إبراهيم!!!!!!
تلعثمت قليلاً : أهلاً .. أهلاً يا عم إبراهيم .. صباح الخير
بنظرة تحمل كل المعانى قال : صباح النور يا دكتور أحمد .
.هى دى عربيتك اللى بيغسلهالك عم سيد !!!!!!!
برغم الكحه الشديدة التى كانت تنتابه بين كل نفسٍ و آخر , إلا أن هذا لم يثنه أبداً عن ترك سيجارته
ياعم إبراهيم , صحتك بالدنيا , أنا خايف عليك و الله! :
يسحب منها نفساً طويلاً , كمعشوقٍ مشتاقٌ إلى رائحه معشوقته , فيكتم دخانها فى أعماقه , ثم يبدأ التكلم بمزاجٍ عالٍ و قد أسبل جفنيه , إلى أن تبدأ سحب الدخان تنبعث من داخله ممتزجة بحروف كلماته
الأعمار بيد الله يا دكتور أحمد , خليها على الله :
! و نعم بالله يا عم إبراهيم , إن لبدنك عليك حق :
عشانك إنت أنا حاحاول .. ثم يقهقه بصوت متحشرج : بس ما اوعدكش .. ههه كح كح كح هههه كح كح
يستند بظهره الذى أحناه الزمن, على كرسي بالٍ و بجواره جردل به ماء عكر و داخله فوطة مائله للسواد دائماً برغم أنها منقوعه أربعه و عشرين ساعه يومياً فى جردله , ثم بين الحينه و الأخرى ينتفض إذا ما رأى زبوناً قد أتى إلى إستقبال مستشفى جمال عبد الناصر , يسحب فوطته الغارقه بالماء , ثم يعصرها على قدر إستطاعته , و ينطلق فى همه إلى آداء مهمته طمعاً فى بقشيش سخي
: مش حترحم نفسك بقى من غسيل العربيات ده يا عم ابراهيم ؟
!! و اشترى سجاير منين يا دكتور أحمد ؟ ده المرتب ما بيكفينيش عشر أيام :
( و مين سمعك يا عم إبراهيم .. أنا أيضاً مرتبى الذى لا يتجاوز مائه و سبعون جنيهاً لا يكفى لخمسة أيام , و ربنا يبارك فى مستوصف الحاج سعد عطيه و مستوصف إسنا , و إلا كنت أكملت باقى الشهر مستديناً )
: ألا بالمناسبه يا دكتور أحمد , مش حتخليني أمسح لك عربيتك بقى ؟؟؟ و الله ده أنا حأخليهالك مرايه
( عربيه إيه بس يا عم إبراهيم !!!! ده أنا باتشعبط كل يوم فى الأوتوبيس , أو محشوراً فى مشروع كسردين داخل علبه)
: إن شاء الله يا عم إبراهيم , بس المشكله إنى بأركنها عند البوابة التانيه , و أخاف أضايق عم سيد لو نقلت العربيه عندك , هو برضه راجل كبير زى ما انت عارف و بيصرف على كوم لحم!
: قلبك طيب يا دكتور أحمد و الله .. أصيل و ابن ناس صحيح , معاك حق .. الله يكون فى عونه .. ده أنا مش قادر أصرف على نفسي و أنا مقطوع من شجرة , أمال هو بيعمل ايه ؟ الله يسهل له .
ثم كنت ذات يوم قادماً فى الصباح الباكر من نوباتجيه ليل فى مستوصف الحاج سعد عطية بالرأس السوداء , و قد انتفخ جيبي بالخمسة جنيهات جراء سهر الليل بأكمله , متوجهاً إلى مكان عملى بالمستشفى , متشعبطاً متشعلقاً كالعادة على سلم الأتوبيس , و قد تدلى جسمى و آخرين معى خارج الأوتوبيس تماماً , لا تربطنا به إلا أيدينا فقط المتعلقه و المتشبثه بقوة بعمود الحديد على بابه , و جزءٍ من أقدامنا على درجات سلمه .
دائماً , تنشأ علاقه حميمه بين المتعلقين خارج الأتوبيس , نتبادل النكات و القفشات , نزحزح أقدامنا قليلاً حتى يتسع المكان لقدمٍ أخرى , نساعد صاحبها أن يجد ليده أيضاُ مكاناً بجوار أيدينا المتشبثه , و قد يقوم أحدنا بإمساكه من ظهره جيداً , إلى أن يستقر به المقام بيننا و يطمئن عليه تماماً , ثم يتركه فى إنتظار متشعلقٍ آخر ...
فى إحدى المحطات كان هناك - كالعادة - جمع غفير من راغبى الركوب , و قد إزدحم السلم تماماً بالأقدام و لم يعد هناك أى مكان لقدمٍ أخرى , لكنه رغم ضآله جسمه و كبر عمره , حاول أن يحشر قدمه بين أقدامنا , لم نستطع إلا أن نساعده كالعادة
: على مهلك يابا .. أوعى بس تقع
كان يجاهد للركوب , و قد أخفى ملامح وجهه تماماً ب( تلفيعه ) صوف تقيه من برد شهر يناير , لم تظهر منه إلا عينيه , و قد تكفلنا نحن المتشعلقون بمساعدته , بالكاد حشرنا يده بين أيدينا , و احتضنه أحدنا بكل قوة من ظهره , بينما سألته أن يضع قدمه فوق قدمى إلى حين أن يفرغ له مكاناً ... ثم بعد أن إنطلق الأتوبيس , و استقر به الحال , استجمع بعض الكلمات لتخرج منه متقطعة بين أنفاسه المتلاحقة
: متشكر ليكم يا جماعه ... كلكم ذوق و الله
: العفو يابا .. الناس لبعضها
قال و هو يرفع عن وجهه تلفيعته :
: الله يكرمك ... طول عمرك ذوق يا دكتور أحمد !!!
أدرت وجهى إليه حتى كادت عيناي أن تفلت منى .. فلم يكن المتشعلق الجديد إلا ... عم إبراهيم!!!!!!
تلعثمت قليلاً : أهلاً .. أهلاً يا عم إبراهيم .. صباح الخير
بنظرة تحمل كل المعانى قال : صباح النور يا دكتور أحمد .
.هى دى عربيتك اللى بيغسلهالك عم سيد !!!!!!!