القلق مسيطرٌ على
كل الوجوه المنتظرة .. ترقبٌ مستعر قد تمكن من ملامحهم .. لم تصدر منهم أى شكوى تجاه
الوضع المزرى فى قاعة الإنتظار .. لم ينبس أي منهم ببنت شفه جراء عدم توافر كراسي تكفى
لجلوس هذا العدد الكبير من المسافرين.. مخلفات شتى من أكياس الشيبسي و البسكويت و زجاجات
المياه الغازية الفارغة تملأ المكان .. لم يتبرم أحد ... و لم يتجرأ أياً منهم و يطالب
بالمسئول عن النظافة فى صالة الإنتظار ... لا شيء يهم الآن ... المهم أن يطير الجميع !!
: الكل يساع بعضه ..نساع بعضينا يا جماعة
الله يكرمكم ... كلها ساعة , و كل واحد يقعد فى مكانه فى الطيارة !!!
عاجله أحدهم : قول ان شاء الله يا أخى !!
: طبعاً يا أستاذ .. ان شاء الله .. ان شاء الله!!
ما إن جاء صوت المذيع الداخلى يعلن : على السادة الركاب المسافرين إلى مدينة الرياض على الرحلة رقم 995 , التوجه إلى بوابة الركوب رقم 12 , إلا و تكالب عليها الجميع , و كأن للجنه باب واحد !!.. الكل يريد أن يكون أول الصف , ... يريد أن يكون أول الراكبين ... يريد أن يكون أول المغادرين ... ففقد الصف شكله الطبيعي , ليتكعبر , و ينكمش فيتكور , و ينضغط فينبعج , و مع شخط موظف البوابة فيهم , يستطيل الصف قليلاً, ثم ثوانٍ و يتعرج , ثم يعود سيرته الأولى متكوراً منكمشاً منبعجاً متكعبراً !!
تزاحمت أجسادهم , فتخبطت دون قصد ... ثم بقصد .. داست أقدامٌ فوق أقدام ..دفعت أيادٍ ظهورا .. و نكزت كيعانٌ بطونا ... لكن .....لا شكوى !!... بالرغم من إفتعالهم المعارك فى السابق لأبسط من ذلك بكثير , لكن اختلف الوضع الآن .., و معلش المسامح كريم .. و يابخت من قدر و عفي .... و برضة , نساع بعضينا يا جماعة !!
بعد أن فرغ الموظف المختص من مراجعة جوازات سفرهم , إلا و تحول مضمار الأنبوبة العملاقة التى تصلهم بالطائرة إلى سباق ماراثون تخبط فيه الجميع بالجميع , من حمل حقيبته اليدوية , بمن حمل طفله على كتفيه , بمن هرولت خلف زوجها , بمن سبقوا آبائهم , بمن سقط من عواجيزهم , بمن , بمن ..... و يا حظه من يصل إلى باب الطائرة قبل الآخر !!! .. و يا سعده يا هناه من يتسلم منه مضيف الطائرة تذكرة ركوب الطائرة أولاً !!!
... دقائق مرت و كأن سوق ( الحضرة القبلية ) قد اتخذ مكانه الجديد على متن الطائرة .. و ما زال مسلسل الخبط و التخبط مستمرا .. طارت حقائبٌ فوق رؤوسٍ لتستقر فى أماكن حمل الأمتعة .. مغلفة ب ( معلش يا جماعة نساع بعضينا ) التى أصبحت أشهر جملة تم تداولها فى هذا اليوم !!.. تداخلت أصواتهم مع أصوات بكاء أطفالهم , مع نهر زوجاتهم لهم , مع إزعاج أبنائهم , مع أزيز طائرتهم , مع صراخ مضيفيهم ...... حتى إذا ما استقر كل شىءٍ فى مكانه , و أغلقت الطائرة ابوابها .. إنزوى كل منهم فى مقعده بلا حراك ..ملتزمين الصمت الرهيب ... تحسبهم أمواتاً و هم جلوس ..حتى حزام الأمان الذى كانوا يربطونه فى السابق بتكاسل بعد إلحاحٍ من المضيفة , أحكموا شده حول بطونهم و الشاطر اللى يعرف يفكه !!
مر وقت انتظار الطائرة على الممر فترة من الوقت دغدغت اعصابهم و لعبت بأوتار قلقهم ..كادت أصوات دقات قلوبهم أن تغطى على صوت أزيز الطائرة المزعج على الممر ... لا لغة تتداول غير لغة العيون المترجمة لما يعتريهم من قلق ... تنقلت عيونهم المضطربة ما بين ساعات أيديهم , و مابين شاشة التليفزيون المثبتة أمامهم , و المرسوم عليها خط سير الطائرة التى لم تتحرك بعد !!
دقائقٌ بعمر الدهر مرت قبل أن تبدأ الطائرة بالتحرك .. فتحركت معها بعضاً من ملامحهم الجامده ... تسارعت عجلاتها , و تسارعت معها سبحان الذى سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين على ألسنتهم... طارت الطائرة عن الأرض , فأطارت معها بعض الإبتسامات الحبيسة منذ وقت ليس بالقليل ... ارتفعت إلى عنان السماء , و إرتفعت معها ضحكات بلا سبب .. كعصفور حلق بعيداً عن عش ثعبان كاد أن يبتلعه!!
انطلقت العيون و الألسن من سجونها .. قرأ الجميع فى عيون الجميع ما وقر فى نفس الجميع .. و لأول مرة يتشابه إحساس القارىء و المقروء ... لأول مرة يشعرون بالحرية و هم يغادرون .... أرض الوطن !!!
إرتكنت برأسي على الشباك المجاور .. محدقاً فى الأسفل و قد إستحالت البيوت نقاطاً , و النيل الجميل..... ( خطاً أسودا) !!
وضعت سماعة الأذن , و استسلمت لأول أغنية فى قائمة الأغانى المرفقة ... كانت لإيمان البحر درويش :( يا بلدنا يا بلد .. هو من إمتى الولد .. بيخاف من أمه ... لما فى الضلمه تضمه ... صدقيني خفت منك .. خفت منك صدقيني !!! ) و كأنى أسمعها لأول مرة !!!
أوصدت أبواب عيني على دموعٍ ,إستطاعت أن تشق لها طريقا ... إختفت البيوت و الخطوط .. و اختلط ملح الدموع بجرح نفسٍ غائرٍ مازال مفتوحا .. اصطبغ الكون بلون داكن...... , في حين استعدت حدود الأفق لإبتلاع قرص الشمس الدامي !!
عاجله أحدهم : قول ان شاء الله يا أخى !!
: طبعاً يا أستاذ .. ان شاء الله .. ان شاء الله!!
ما إن جاء صوت المذيع الداخلى يعلن : على السادة الركاب المسافرين إلى مدينة الرياض على الرحلة رقم 995 , التوجه إلى بوابة الركوب رقم 12 , إلا و تكالب عليها الجميع , و كأن للجنه باب واحد !!.. الكل يريد أن يكون أول الصف , ... يريد أن يكون أول الراكبين ... يريد أن يكون أول المغادرين ... ففقد الصف شكله الطبيعي , ليتكعبر , و ينكمش فيتكور , و ينضغط فينبعج , و مع شخط موظف البوابة فيهم , يستطيل الصف قليلاً, ثم ثوانٍ و يتعرج , ثم يعود سيرته الأولى متكوراً منكمشاً منبعجاً متكعبراً !!
تزاحمت أجسادهم , فتخبطت دون قصد ... ثم بقصد .. داست أقدامٌ فوق أقدام ..دفعت أيادٍ ظهورا .. و نكزت كيعانٌ بطونا ... لكن .....لا شكوى !!... بالرغم من إفتعالهم المعارك فى السابق لأبسط من ذلك بكثير , لكن اختلف الوضع الآن .., و معلش المسامح كريم .. و يابخت من قدر و عفي .... و برضة , نساع بعضينا يا جماعة !!
بعد أن فرغ الموظف المختص من مراجعة جوازات سفرهم , إلا و تحول مضمار الأنبوبة العملاقة التى تصلهم بالطائرة إلى سباق ماراثون تخبط فيه الجميع بالجميع , من حمل حقيبته اليدوية , بمن حمل طفله على كتفيه , بمن هرولت خلف زوجها , بمن سبقوا آبائهم , بمن سقط من عواجيزهم , بمن , بمن ..... و يا حظه من يصل إلى باب الطائرة قبل الآخر !!! .. و يا سعده يا هناه من يتسلم منه مضيف الطائرة تذكرة ركوب الطائرة أولاً !!!
... دقائق مرت و كأن سوق ( الحضرة القبلية ) قد اتخذ مكانه الجديد على متن الطائرة .. و ما زال مسلسل الخبط و التخبط مستمرا .. طارت حقائبٌ فوق رؤوسٍ لتستقر فى أماكن حمل الأمتعة .. مغلفة ب ( معلش يا جماعة نساع بعضينا ) التى أصبحت أشهر جملة تم تداولها فى هذا اليوم !!.. تداخلت أصواتهم مع أصوات بكاء أطفالهم , مع نهر زوجاتهم لهم , مع إزعاج أبنائهم , مع أزيز طائرتهم , مع صراخ مضيفيهم ...... حتى إذا ما استقر كل شىءٍ فى مكانه , و أغلقت الطائرة ابوابها .. إنزوى كل منهم فى مقعده بلا حراك ..ملتزمين الصمت الرهيب ... تحسبهم أمواتاً و هم جلوس ..حتى حزام الأمان الذى كانوا يربطونه فى السابق بتكاسل بعد إلحاحٍ من المضيفة , أحكموا شده حول بطونهم و الشاطر اللى يعرف يفكه !!
مر وقت انتظار الطائرة على الممر فترة من الوقت دغدغت اعصابهم و لعبت بأوتار قلقهم ..كادت أصوات دقات قلوبهم أن تغطى على صوت أزيز الطائرة المزعج على الممر ... لا لغة تتداول غير لغة العيون المترجمة لما يعتريهم من قلق ... تنقلت عيونهم المضطربة ما بين ساعات أيديهم , و مابين شاشة التليفزيون المثبتة أمامهم , و المرسوم عليها خط سير الطائرة التى لم تتحرك بعد !!
دقائقٌ بعمر الدهر مرت قبل أن تبدأ الطائرة بالتحرك .. فتحركت معها بعضاً من ملامحهم الجامده ... تسارعت عجلاتها , و تسارعت معها سبحان الذى سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين على ألسنتهم... طارت الطائرة عن الأرض , فأطارت معها بعض الإبتسامات الحبيسة منذ وقت ليس بالقليل ... ارتفعت إلى عنان السماء , و إرتفعت معها ضحكات بلا سبب .. كعصفور حلق بعيداً عن عش ثعبان كاد أن يبتلعه!!
انطلقت العيون و الألسن من سجونها .. قرأ الجميع فى عيون الجميع ما وقر فى نفس الجميع .. و لأول مرة يتشابه إحساس القارىء و المقروء ... لأول مرة يشعرون بالحرية و هم يغادرون .... أرض الوطن !!!
إرتكنت برأسي على الشباك المجاور .. محدقاً فى الأسفل و قد إستحالت البيوت نقاطاً , و النيل الجميل..... ( خطاً أسودا) !!
وضعت سماعة الأذن , و استسلمت لأول أغنية فى قائمة الأغانى المرفقة ... كانت لإيمان البحر درويش :( يا بلدنا يا بلد .. هو من إمتى الولد .. بيخاف من أمه ... لما فى الضلمه تضمه ... صدقيني خفت منك .. خفت منك صدقيني !!! ) و كأنى أسمعها لأول مرة !!!
أوصدت أبواب عيني على دموعٍ ,إستطاعت أن تشق لها طريقا ... إختفت البيوت و الخطوط .. و اختلط ملح الدموع بجرح نفسٍ غائرٍ مازال مفتوحا .. اصطبغ الكون بلون داكن...... , في حين استعدت حدود الأفق لإبتلاع قرص الشمس الدامي !!