لا شيء
قصة قصيرة بقلم / أحمد رفاعي
أجاء به الممرض على
كرسي متحرك ... سبعيني العمر .. إرتكنت رأسه على كتفه الأيمن ... تبعثرت شعيرات ذقنه
بعشوائية ... تمكن البياض من معظمها ... فمه معوج ...نصف مفتوح .. يكشف عن فقدانه معظم
أسنانه ...يده اليمنى قد تدلت – بلا إرادة – جانب كرسيه ...و بعضاً من لعابٍ سال على
جانب فمه .. جراء شلل نصفي ألم به .
: سلامتك يا حاج ؟ .. بتشتكي من إيه ؟
.... لم ينطق ... فقط كان ينظر إليَّ .. و كأننى .... لا شيء !!!!
: فيه حد معاه برة يابني ؟
: كان فيه واحد معاه يا دكتور .. بس شكله سابه و مشي !!
: سابه و مشي !!! .. طيب و الحل ايه دلوقتى ؟ أنا عندي ميعاد مهم جداً !!!
: نخليه فى الاستراحة شوية , يمكن يبان له صاحب يا دكتور
... نظرت إليه .. ما زال ينظر إليًّ نفس النظرة ... و كأننى ( لا شيء ) !! ..
( فكرى مشغول جداً بها ... أقل من الساعة قد تبقت على موعدى معها ... آآآآه ... قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعى شغفاً بلقائها )
: طيب خلاص .. وديه هناك لغاية لما ييجي حد من أهله
إستدار به , و قبل أن يمضى رمقنى بنفس النظرة ... و كأننى ( لا شيء ) !!
تخلصت من البالطو الأبيض .. و تخطيت صفوف المرضى المنتظرين فى صالة الإنتظار ..بعد أن تسلم منى زميلي المناوبة .... أسرعت الخطي ...فلم يبق على الموعد الا دقائق ... يا فرحة قلبي !!
فى اخر الممر و قبل أن أخرج من العنبر سألنى زميل جديد أن أساعده فى تركيب ( كانيولا ) لطفلٍ تبدو من ملامحه الهزيله .. و رأسه التى فقدت كل شعرها .. أنه يعالج كيماوياً من سرطان ما .. أمسكت بيده ( العظمية ) ... عروقة فوق جلده ... لكنها ضعيفة جداً ... لم تتحمل وخزات الإبر ...نظرت إليه قبل أن أرسل فى ذراعه الكانيولا ... نظر إليَّ ... بمآقٍ تملؤها الدموع ... و كأننى ... ( لا شيء ) !!
أكملت ما تبقى من الممر فى سرعة .. الموعد قد حان ... يقتلنى إنتظارها .. أصلحت هندامى و أنا أسرع الخطى .. وضعت من العطر ما يكفى لطمس رائحة ( الديتول و السافلون ) العالقة بملابسي ... مشطت شعرى بأصابعي .. و التهمت السلالم إلتهاماً .
و قبل أن أنطلق من بوابة المستشفى , ارتطمت بكهل ٍ , كدت أن أوقعه أرضه .. كان يتوكأ على عصا خشبية .. تاهت قدمه بين أربطه استحال لونها رمادياً :
: معلش يا حاج .. أنا اسف !!
: و لا يهمك يا بني .. جات سليمة ..هي الطواريء منين يابني ؟
: علي يمينك يا حاج
: طيب ممكن بس توصلنى لو سمحت أصل مش قادر أمشي !
: يا حاج على يمينك على طول .. معلش لأن أنا مستعجل شوية !!
: طيب يا بني ... كتر خيرك !!!
... نظرت له بعد أن تركته ... وجدته ما زال واقفاً مكانه .. لم يتحرك .. بل كان ينظر إليًّ, و كأننى .... ( لا شيء ) !!
عقارب الساعه فى سباق سرعة .. و الوقت لا يريد التوقف .. أصبحت خطواتى أقرب إلى الجري منها إلى المشي .. لم تغب عن بالى لحظة واحده ... أتوق إلى رؤياها ... أتخيلها .. و هى فى إنتظارى .. على شفتيها إبتسامة لها ألف مغزى و مغزى ... تحرك داخل نفسي ألف شيطان و شيطان !!
ازدحم الطريق فجأه .. و تكوم بعض البشر إنتظاراً لإخضرار إشارة المرور ... تجاورت مع عجوز كفيف .. بيده اليمنى عصا يتحسس بها طريقه .. و يده اليسرى تتحسس الفراغ أمامه ... هممت بأن ألتقط يده لأعبر به الطريق , لكن ... لا وقت لدي .. تركته لخبرته .. أو لغير متعجلٍ يعينه ... نظرت إليه و أنا أتجاوزه ... كان ينظر إلى كل شيء حوله و كأن كل شيء .... ( لا شيء ) !!!
الجري لم يعد ممكناً وسط حشود البشر التى بدأ الشارع يعج بها .. أوجدت لجسدى منفذاً متعرجاً بين الأجساد الغير متعجلة .. اصطدم بهذا .. أعتذر لهذا .. أتجاهل هذا و هذا .. شاطت قدمى فى طريقها بعضاً من مناديل ورقية و علب كبريت .. توقفت للحظة لألملمها .. كانت لسيدة تفترش جانب الطريق المزدحم .. على وجهها حزن السنين .. يفيض من ملامحها التعب .. تحتضن رضيعاً على فخذها .. يكاد أن يختفى وجهه بين جحافل الذباب ... أرجعت إليها ما بعثرته .. شكرتنى بابتسامة منكسرة , ثم مدت يدها بعلبة مناديل , قائلة :
: بربع جنيه بس يا بيه !!
: متشكر مش عايز
: طيب باكو نعناع ......عشان العيل !!
أجبتها و أنا أنظر فى ساعتى مسرعاً الخطي
: متشكر .. أصل مستعجل شوية
: ربنا يكفيك شر الدنيا يا أستاذ !!!
.. نظرت إليها ... عاد الإنكسار و الحزن إلى وجهها .. و هى تنظر إليًّ .. و كأننى ..... ( لا شيء ) !!
أكملت مسيرتى الماراثونية المتخبطة .. أطلقت لساقى العنان وسط الجموع ..اصطدمت بالجميع .. لم أعد أعتذر .. و لم أعد أتأسف .. طاردتنى لعناتهم ... و لاحقتني نظرات مَن قبلهم .. لكننى مازلت لا أرى سواها !!
.. تسارعت خطواتى .. و تسارعت معها دقات قلبي .. و تسارع معهما عقلي , ولكن .... بلا إتجاه !!
لم يتبق على وصولى إليها إلا بضعة أمتار ...
على ناصية الطريق المقابل .... كانت هناك ... تقف فى دلال !!
على شفتيها إبتسامة ...... تذوب منها الجبال !!
انطلقت إليها ... لكن... كأنى أعدو فى كابوسٍ ألجم خطواتى ... . أراها , لكن تاهت ملامحها فى ملامح من قابلتهم !!! .. جاهدت حتى أجمع شمل خطواتى مرة أخرى ..لكن تاهت الأرض من تحت أقدامى !!!!
اختلط حابل أفكارى بنابلها ... مر أمام مخيلتي ... ( كل شيء ) .. .. كسهامٍ خرجت من مفترق إتجاهات ... ثم تنقض علي ماتبقى من بقايايا , فبعثرت ما هو مبعثر منها .. و عرَّت ما كان شبه مستورا !!
.. همهمات بداخلى بدأت تستحيل كلمات إنقلبت إلى صرخات تسري بأحشائى ... تتخلل عروقى ... تفيض من مسام جسدى .. تحثنى على تحطيم كل شيء حولى ..
ثقلت قدماي بحِملها .. و أبطأت الخطى قليلاً ... ثم كثيراً .. ثم توقفت تماماً قبل أن أصل إليها , أمام كهلٍ فقد إحدى ساقيه .. مستنداً على عكازٍ خشبي تحت إبطه .. أحطه بذراعى .. لأعبر به الطريق .. استدرت .. و أعطيتها ظهرى ... نظرت إليها ... تبدلت ابتسامتها دهشة .. و تبدلت دهشتي إبتسامة ... رأيتها .. و لأول مرة أراها ....... لا شيء !!
: سلامتك يا حاج ؟ .. بتشتكي من إيه ؟
.... لم ينطق ... فقط كان ينظر إليَّ .. و كأننى .... لا شيء !!!!
: فيه حد معاه برة يابني ؟
: كان فيه واحد معاه يا دكتور .. بس شكله سابه و مشي !!
: سابه و مشي !!! .. طيب و الحل ايه دلوقتى ؟ أنا عندي ميعاد مهم جداً !!!
: نخليه فى الاستراحة شوية , يمكن يبان له صاحب يا دكتور
... نظرت إليه .. ما زال ينظر إليًّ نفس النظرة ... و كأننى ( لا شيء ) !! ..
( فكرى مشغول جداً بها ... أقل من الساعة قد تبقت على موعدى معها ... آآآآه ... قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعى شغفاً بلقائها )
: طيب خلاص .. وديه هناك لغاية لما ييجي حد من أهله
إستدار به , و قبل أن يمضى رمقنى بنفس النظرة ... و كأننى ( لا شيء ) !!
تخلصت من البالطو الأبيض .. و تخطيت صفوف المرضى المنتظرين فى صالة الإنتظار ..بعد أن تسلم منى زميلي المناوبة .... أسرعت الخطي ...فلم يبق على الموعد الا دقائق ... يا فرحة قلبي !!
فى اخر الممر و قبل أن أخرج من العنبر سألنى زميل جديد أن أساعده فى تركيب ( كانيولا ) لطفلٍ تبدو من ملامحه الهزيله .. و رأسه التى فقدت كل شعرها .. أنه يعالج كيماوياً من سرطان ما .. أمسكت بيده ( العظمية ) ... عروقة فوق جلده ... لكنها ضعيفة جداً ... لم تتحمل وخزات الإبر ...نظرت إليه قبل أن أرسل فى ذراعه الكانيولا ... نظر إليَّ ... بمآقٍ تملؤها الدموع ... و كأننى ... ( لا شيء ) !!
أكملت ما تبقى من الممر فى سرعة .. الموعد قد حان ... يقتلنى إنتظارها .. أصلحت هندامى و أنا أسرع الخطى .. وضعت من العطر ما يكفى لطمس رائحة ( الديتول و السافلون ) العالقة بملابسي ... مشطت شعرى بأصابعي .. و التهمت السلالم إلتهاماً .
و قبل أن أنطلق من بوابة المستشفى , ارتطمت بكهل ٍ , كدت أن أوقعه أرضه .. كان يتوكأ على عصا خشبية .. تاهت قدمه بين أربطه استحال لونها رمادياً :
: معلش يا حاج .. أنا اسف !!
: و لا يهمك يا بني .. جات سليمة ..هي الطواريء منين يابني ؟
: علي يمينك يا حاج
: طيب ممكن بس توصلنى لو سمحت أصل مش قادر أمشي !
: يا حاج على يمينك على طول .. معلش لأن أنا مستعجل شوية !!
: طيب يا بني ... كتر خيرك !!!
... نظرت له بعد أن تركته ... وجدته ما زال واقفاً مكانه .. لم يتحرك .. بل كان ينظر إليًّ, و كأننى .... ( لا شيء ) !!
عقارب الساعه فى سباق سرعة .. و الوقت لا يريد التوقف .. أصبحت خطواتى أقرب إلى الجري منها إلى المشي .. لم تغب عن بالى لحظة واحده ... أتوق إلى رؤياها ... أتخيلها .. و هى فى إنتظارى .. على شفتيها إبتسامة لها ألف مغزى و مغزى ... تحرك داخل نفسي ألف شيطان و شيطان !!
ازدحم الطريق فجأه .. و تكوم بعض البشر إنتظاراً لإخضرار إشارة المرور ... تجاورت مع عجوز كفيف .. بيده اليمنى عصا يتحسس بها طريقه .. و يده اليسرى تتحسس الفراغ أمامه ... هممت بأن ألتقط يده لأعبر به الطريق , لكن ... لا وقت لدي .. تركته لخبرته .. أو لغير متعجلٍ يعينه ... نظرت إليه و أنا أتجاوزه ... كان ينظر إلى كل شيء حوله و كأن كل شيء .... ( لا شيء ) !!!
الجري لم يعد ممكناً وسط حشود البشر التى بدأ الشارع يعج بها .. أوجدت لجسدى منفذاً متعرجاً بين الأجساد الغير متعجلة .. اصطدم بهذا .. أعتذر لهذا .. أتجاهل هذا و هذا .. شاطت قدمى فى طريقها بعضاً من مناديل ورقية و علب كبريت .. توقفت للحظة لألملمها .. كانت لسيدة تفترش جانب الطريق المزدحم .. على وجهها حزن السنين .. يفيض من ملامحها التعب .. تحتضن رضيعاً على فخذها .. يكاد أن يختفى وجهه بين جحافل الذباب ... أرجعت إليها ما بعثرته .. شكرتنى بابتسامة منكسرة , ثم مدت يدها بعلبة مناديل , قائلة :
: بربع جنيه بس يا بيه !!
: متشكر مش عايز
: طيب باكو نعناع ......عشان العيل !!
أجبتها و أنا أنظر فى ساعتى مسرعاً الخطي
: متشكر .. أصل مستعجل شوية
: ربنا يكفيك شر الدنيا يا أستاذ !!!
.. نظرت إليها ... عاد الإنكسار و الحزن إلى وجهها .. و هى تنظر إليًّ .. و كأننى ..... ( لا شيء ) !!
أكملت مسيرتى الماراثونية المتخبطة .. أطلقت لساقى العنان وسط الجموع ..اصطدمت بالجميع .. لم أعد أعتذر .. و لم أعد أتأسف .. طاردتنى لعناتهم ... و لاحقتني نظرات مَن قبلهم .. لكننى مازلت لا أرى سواها !!
.. تسارعت خطواتى .. و تسارعت معها دقات قلبي .. و تسارع معهما عقلي , ولكن .... بلا إتجاه !!
لم يتبق على وصولى إليها إلا بضعة أمتار ...
على ناصية الطريق المقابل .... كانت هناك ... تقف فى دلال !!
على شفتيها إبتسامة ...... تذوب منها الجبال !!
انطلقت إليها ... لكن... كأنى أعدو فى كابوسٍ ألجم خطواتى ... . أراها , لكن تاهت ملامحها فى ملامح من قابلتهم !!! .. جاهدت حتى أجمع شمل خطواتى مرة أخرى ..لكن تاهت الأرض من تحت أقدامى !!!!
اختلط حابل أفكارى بنابلها ... مر أمام مخيلتي ... ( كل شيء ) .. .. كسهامٍ خرجت من مفترق إتجاهات ... ثم تنقض علي ماتبقى من بقايايا , فبعثرت ما هو مبعثر منها .. و عرَّت ما كان شبه مستورا !!
.. همهمات بداخلى بدأت تستحيل كلمات إنقلبت إلى صرخات تسري بأحشائى ... تتخلل عروقى ... تفيض من مسام جسدى .. تحثنى على تحطيم كل شيء حولى ..
ثقلت قدماي بحِملها .. و أبطأت الخطى قليلاً ... ثم كثيراً .. ثم توقفت تماماً قبل أن أصل إليها , أمام كهلٍ فقد إحدى ساقيه .. مستنداً على عكازٍ خشبي تحت إبطه .. أحطه بذراعى .. لأعبر به الطريق .. استدرت .. و أعطيتها ظهرى ... نظرت إليها ... تبدلت ابتسامتها دهشة .. و تبدلت دهشتي إبتسامة ... رأيتها .. و لأول مرة أراها ....... لا شيء !!