ليالي
القطامية
انطلق الأتوبيس من محطة ميدان التحرير باتجاه ( السكن ) , الذى لا أعرف مكانه بعد !! .. كل ما أعرفه أنه فى ( مدينة نصر ) !! .. لم أشغل بالي كثيراً بسؤال مرافقي عن مدينة نصر , و أين مكانها , فأنا لم أطأ القاهرة كثيراً قبل ذلك , و جهلى بأحيائها منعني من السؤال.. ... المهم أن هناك سكناً سيحتويني السنتين القادمتين خلال دراستي للماجستير و خلاص ! انهمكت بمتابعة العمارات الشاهقة المتلاحمة , و الشوارع الفسيحة المزدحمة بأناسها و أشيائهم , و الأنوار المبهرة التى جعلت من خارج الأتوبيس نهاراً قبل انتصاف الليل بساعة واحدة ! .. لست أدرى كم من الوقت مر و أنا فى جلستي تلك أتابع خارج الأتوبيس , متجاهلاً عن غير عمد مرافقي .... ما زالت ( الكيميا ) بيننا لم تأخذ مجراها ... هو قريبي من بعيد ... أمين شرطة و يقضى يوماً فى الأسبوع فى هذه الشقة , ثم يعود أدراجه إلي قريته التابعة لمركز طنطا , ثم لما علم أنى سأدرس الماجستير فى القاهرة , تطوع بشقته لأقضى بها فترة دراستي كلها ... كتر خيرك يا حضرة الأمين و الله . شيئاً فشيئا , راحت العمارات تقصر عن ذي قبل .. حتى تمكنت عيناي من أدوارها العليا جميعها .. ثم بدأت المسافات تتسع بينها .. الشوارع ضاعت ملامحها .. الأنوار راحت تخفت شيئاً فشيئا إلى أن غلبت أضواء الأتوبيس على ما حولها .. ضاعت منى الرؤية كثيراً , فلم أعد أرى ما خارج الأتوبيس , بل أصبحت شبابيكه الزجاجية مرآه تعكس صورة من يجلسون داخله !! الظلام الدامس قد غطى الفضاء المحيط بنا ... تملكني الفضول قليلاً , فسألت مرافقى : : هو احنا فين بالضبط ؟ : خلاص يا دكتور .. هانت ... دقايق و نوصل : أصل يعنى الدنيا بره ضلمه أوى و مش شايف أنا لا مساكن و لا حاجة ! : ههههههههه .. حتتبسط يا دكتور .. حتتبسط .. السكن ان شاء الله حيعجبك أوى : مش هي مدينة نصر دى برضة فى القاهرة ؟ : أومااال !! طبعاً : طيب أنا شايف ان المساكن خلاص خلصت كلها !! : أصلها مدينة جديدة تبع مدينة نصر : مدينة جديدة !!! .. اسمها ايه ؟ : القطامية ... و احنا ساكنين فى مساكن الزلزال :الزلزال !! .. يا ساتر ... و ليه سموها كده ؟ : عشان الحكومة سكنت فيها الناس اللى اتضرروا من الزلزال .... دقائق , ثم بدأت أنوار تلمع على إستحياء خارج الأتوبيس , ثم ما لبثت الشوارع أن ظهرت مرة أخرى , ثم أناساً يملؤونها بأشيائهم و كأن شريط الفيلم قد تم لصقه مرة أخرى : حضر نفسك يا دكتور .. حننزل المحطة الجاية . .... ترجلنا من الأتوبيس .. أول ما لفت نظرى هو الهيئة الرثة المزرية لكل ما وقعت عليه عيناى , من أناس و حاجياتهم و هيئاتهم و ملبسهم و شوارعهم و مساكنهم !! .. لم أجهد عقلي كثيراً فى التفكير فى هذا الأمر , فالتعب كان قد تمكن منى و كان كل أملى فى سرير يحتضننى و احتضنه بكل شوق و لهفه ليزيح عنى تعب هذا اليوم الطويل الذى بدأ منذ الخامسة فجراً و لم ينته حتى الان متنقلاً على الطرقات ما بين اسكندرية و طنطا و القاهرة انتهاءاَ بالقطامية و زلزالها و ناسها و .و ... دخلنا إحدى العمارات و صعدنا إلي دورها الرابع ... لا أتذكر الكثير فلم أكد أرى السرير إلا و قد نسيت ما سواه .. استسلمت لنوم عميق جداً لأصحو على ( زلزال ) فى مساكن الزلزال !!! ... ضوضاء و ضجيج و زعيق و شجار و معارك و صراخ أطفال و ردح نساء و نباح كلاب و نهيق حمير .. ميكروفونات باعه جائلين منها ما يدعو الصَبية, لتجرى على العربية , ياللا يا وليه, الطماطم باتنين جنيه .. و مين عايز يشترى الأرانب و الحمام و البط و الفراخ ... و بائع الأنابيب الذى دخل فى سباق إزعاج بينه و بين مفتاحه الذى كان ينزل كالسوط على الإنبوبة المسكينة التى تجاوره .. قفزت من سريري باتجاه الشباك , سارقاً نظرات من بين فتحاته ... لأرى لوحة فوضاوية تماماً .. لا شارع تستطيع تبيانه , اختفى تماماً بين أمواج البشر و الحيوانات و عربات الكارو المتداخلة المتلاحمة تماماَ ... ذهبت لأوقظ قريبي .... لم أجده !! بل وجدت منه وريقة على سريره : : ( صباح الفل يا دكتور .. لقيتك تعبان مارضيتش أصحيك .. لو عايز تروح الكلية ممكن تاخد اتوبيس 15 من تحت البلوك على طول ... أشوفك على خير بعد أسبوع ... سلام يا دوك ) ...... يا صلاه النبي !!! .. تشوفنى بعد أسبوع !! .. هو أنا حأقدر أعيش أسبوع كامل فى وسط الهكسوس دول ؟ كان كل همى أن يمر الأسبوع بأى طريقة , حتى أخرج من هذا القمقم الذى وضعنى فيه قريبي .. مرت الأيام ثقيلة .. أستقل الأتوبيس من محطته الأولى , قبل أن يبتلع فى طريقه إلى الكلية عشرات من الضحايا أمثالي , إلى أن تنبعج به أحشاؤه و تتدلى تماماً خارجه ... و يتكرر نفس السيناريو فى طريق العودة .. كنت أستمتع تماماً بأنى أول من يركب فى محطته الأولى , ثم تتضاعف سعادتى كلما إمتلأ جوفه و برزت جوانبه , بينما أناظرهم أنا من مقعدى!!.. ما هذا الشر الذى يعترينى !!! رويداً رويدا , بدأت أتعود على السيناريو المتجدد يومياً ..حكايات لا تنتهى .. قصص يومية قصيرة .. و روايات طويلة حلقاتها مستمرة يومياً , فشر بولد أند بيوتيفول !!! .. الملل لم يتسلل إلي يوماً .. مجرد إطلالة من البلكونة الصغيرة , أو استراق بعض النظرات من بين ضلفات الشباك , كفيله بأن تريك الجديد و الجديد... الأسبوع إمتد شهراً .. ثم ثلاثة .. ثم لم أعد أعد الأيام بعد ذلك . مساكن الزلزال .. .. أوضع منطقة يمكن أن تروها فى حياتكم !! .. مرتع خصب جداً و عيني عينك للمخدرات و الدعارة و كل شيء غير مباح فهو متاح و مباح و زغرطي يا إنشراح !!.. أفلام و مسرحيات و قصص قصيرة و روايات على أرض الواقع كنت أراها يومياً ..منها المنتهى فى نفس اليوم .. و منها الممتد إلى أيام أُخر ..ثم أن جاء يوم علقت فيه الزينة و الميكروفونات على جميع بلكونات البلوك الذى أسكنه , و البلوكات المجاورة .. حيث كان اليوم هو حفل خطوبة بلطجى و فتوة المنطقة الأول , و الموزع الرئيسي للمخدرات بها ..( أحمد البطل ) .. و الذى كان يسكن فى الدور الخامس من البلوك الذى أسكن دوره الرابع , على نعيمة بنت ام نعيمة بائعة الخضار ... و عندما حل المساء , و قد فقدت القدرة على سماع أى شيء من جراء المعركة حامية الوطيس بين مختلف الميكروفونات المتشبثة بالبلكونات المتجاورة , اتخذت مجلسي فى البلكونة متابعاً فقرات الحفل الكبير المقام فى عرض الشارع أسفل البلوك .. الضيوف جاءوا من كل حدب و صوب ... ( المعلم اللافى ) أكبر تجار المخدرات بمنطقة القطامية بشعرة المتدلى على ظهره , راكباً حصان أبيض فشر عنترة بن شداد ! ... ( سميرة الدكر ) العضو النشط فى توزيع البانجو على سيدات ( هههههههههه و النبي معلش سامحونى على كلمه سيدات دى ) المنتكه ! .. (جمال فيديو )صاحب المقهى الأشهر و الذى يتجمع عنده كل من كان له رغبة فى نفسين حشيش أو حته أفيون أو لفافة بانجو ! .... ( محسن شبطة ) مورد البلطجية الأول و الذى تاه وجهه بين كمية من البِشل و الندبات من جراء عشرميت معركة سابقة ! .. ( حمادة قرني) أكبر قواد بالمنطقة حيث يمكنك الحصول على ليلة حمراء مقابل اتنين كيلو طماطم أو ربطتين جرجير ! و مع بداية فقرات الحفل التى أحياها مطرب واحد هو ( ناصر أندلس) ..... ( و هو يعنى حد يستجري يجيب مطرب تانى من برة الحتة !!! ده كان ناصر شرحه ) , و ناصر أندلس لم يكن فقط بشع الصوت , بل كان ألدغ فى حرف ( النون ), إذ كان ينطقة ( ضاد ) ... و مع نهيق ناصر كانت تتمايل ( سنية سوست ) - راقصة الزلزال الحامل فى شهرها التاسع - ( يقولون أنها حامل هكذا منذ سنوات و لم تلد بعد!!.. سبحان الله!! ) ... راح ناصر ينهق بأغنية الرائعة نجاة الصغيرة ( أنا باستناك ) , و لكن بلكنته و لهجتة و لدغته هو, أصبحت : أضا باصطضاك أضا ... أضا ... أضا باصطضاك .. أضا ... أضا ... و راحت سحب الدخان الأزرق تتصاعد من الحفل الكبير لتصل إلى بلكونة شقتى مقتحمةً نخاشيش أنفى , تفاعلت معها بعد لحظات بضحكات هيستيرية غير مفهومه و غير مبررة !!( و الله و اتسطلت يابوحميد .. ده ايه الجو العنب ده !!!) ... و مع قرب انتهاء الحفل , و أحمد البطل بالكاد تحمله أقدامه , إذ قررأن تصعد معه خطيبته إلى شقته !! .. لم تفلح محاولات أبو نعيمة و لا أم نعيمة من إثنائه عن فرمانه هذا .. فهم يعرفون مصيرهم إذا ما رفضوا ما انتواه , كما يعرف الجميع .. نعيمة ممكن تتيتم حالاً من أبوها و أمها و اللى جابوا أمها كمان !!! .. استحالت الخطوبة فى لحظات إلى ( ليلة دخلة ) وسط نواح أم نعيمة .. و توسلات أبو نعيمة التى راحت أدراج الرياح !! الدخان الأزرق ما زال يعبق الأجواء ... و السادة المحششون فى دنياهم منعزلون معزولون.. فى حين بعد أن فرغ ناصر أندلس من القضاء على رائعة نجاة , إذ إنقض على رائعة أم كلثوم ( الله يرحمها هى و رائعتها ), جاعراً : : أضا و اضّا ... ظلمضا الحب ... بايضيضااااااااااااااااااا |